جذور التوتر ومؤامرة الغدر الجزء الأول

إجلاء يهود بني النضير
الجزء الأول: جذور التوتر ومؤامرة الغدر
مقدمة: يهود المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم
عندما وطأت قدما النبي محمد صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنورة، التي كانت تُعرف بيثرب، وجد فيها نسيجًا اجتماعيًا فريدًا. كانت المدينة موطنًا لقبيلتي الأوس والخزرج العربيتين، اللتين اعتنقتا الإسلام وشكلتا الدعامة الأساسية للمجتمع المسلم الجديد، وعُرفوا بالأنصار لنصرتهم النبي والمهاجرين. إلى جانبهم، كانت تقيم ثلاث قبائل يهودية رئيسية هي بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، ولكل منها تاريخها ونفوذها. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته وبعد نظره ضرورة إرساء أسس متينة للتعايش السلمي والاحترام المتبادل بين جميع هذه المكونات. لم تكن رسالة الإسلام لتُبنى على الإقصاء أو العداوة، بل على العدل والبر والوفاء بالعهود مع من لم يقاتل المسلمين في دينهم ولم يخرجهم من ديارهم. تجسيدًا لهذه المبادئ، كانت “صحيفة المدينة” بمثابة الوثيقة التأسيسية التي نظمت العلاقات الحقوقية والسياسية والاجتماعية، مانحةً اليهود أمانًا على دينهم وأموالهم وأنفسهم، مقابل التزامات بالدفاع المشترك عن المدينة والتعاون لما فيه خير الجميع. لكن، وكما هي سنة الحياة، لم تخلُ هذه العلاقة المثالية على الورق من اختبارات وتحديات على أرض الواقع. بعض من يهود المدينة، ومنهم بنو النضير، لم يستسيغوا فكرة أن يكون النبي الخاتم الذي طالما انتظروه من نسل إسماعيل وليس من نسل إسحاق، أو ربما رأوا في قوة الإسلام المتنامية تهديدًا لمصالحهم ونفوذهم الاقتصادي والاجتماعي. غزوة بني النضير، التي سنتناول أحداثها بالتفصيل، تُعد شاهدًا على هذه التوترات، وتُظهر كيف يمكن لنقض العهود ومحاولات الغدر أن تؤدي إلى عواقب وخيمة، وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الخيانة بحزم وعدل، وكيف كان التأييد الإلهي حليفه وحليف المؤمنين. هذه القصة ليست مجرد سرد لأحداث الماضي، بل هي معين لا ينضب من الدروس والعبر التي تحتاجها الأمة في كل عصر ومصر.
أصل بني النضير ومكانتهم في يثرب
يُعتبر بنو النضير من أبرز القبائل اليهودية التي أقامت في يثرب لعدة قرون قبل بزوغ فجر الإسلام. تذكر المصادر التاريخية أن نسبهم يعود إلى هارون، أخي النبي موسى عليهما السلام، مما يمنحهم شعورًا بالتميز والعراقة. اختاروا الاستقرار في المناطق الخصبة من ضواحي المدينة، حيث أقاموا حصونًا قوية ومنيعة، دلت على خبرتهم في فنون التحصين والدفاع. كما اشتهروا بزراعة النخيل، فامتلكوا مزارع واسعة كانت مصدرًا رئيسيًا لثروتهم وقوتهم الاقتصادية. هذه القوة الاقتصادية، مقرونة بقدرتهم العسكرية المتمثلة في حصونهم ورجالهم، منحتهم مكانة مرموقة ونفوذًا لا يُستهان به في معادلات القوة داخل يثرب. كانت علاقاتهم بالقبائل العربية، الأوس والخزرج، تتأرجح بين التحالفات والمصالح المشتركة حيناً، والنزاعات والتوترات أحياناً أخرى، خاصة في ظل الحروب الداخلية التي كانت تمزق يثرب قبل الإسلام مثل يوم بعاث. وكغيرهم من أهل الكتاب في ذلك الزمان، كان بنو النضير يحملون في تراثهم الديني بشارات بقدوم نبي آخر الزمان، وكانوا يتوقعون ظهوره، بل ويستفتحون به على أعدائهم من العرب، أي أنهم كانوا يقولون إذا ظهر هذا النبي سنتبعه ونقاتلكم معه. هذا الانتظار كان جزءًا من هويتهم الدينية والثقافية، ولكنه تحول إلى مصدر إشكالية عندما ظهر النبي المنتظر من العرب وليس منهم.
صحيفة المدينة والعهود المبرمة
فور وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدء تأسيس الدولة الإسلامية، كانت من أولى وأهم الخطوات التي اتخذها هي وضع وثيقة شاملة لتنظيم العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع المدني الجديد. هذه الوثيقة، المعروفة في كتب السيرة بـ“صحيفة المدينة” أو “كتاب النبي”، تُعد بحق من أقدم الدساتير المكتوبة في التاريخ. لم تكن الصحيفة مجرد اتفاق ثنائي، بل كانت ميثاقًا اجتماعيًا وسياسيًا متعدد الأطراف، شمل المهاجرين والأنصار ومختلف القبائل اليهودية، بما فيهم بنو النضير. نصت الصحيفة بوضوح على أن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وأن يهود بني عوف (وذكرت قبائل يهودية أخرى بما فيها حلفاء بني النضير) أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. تضمنت الوثيقة بنودًا أساسية مثل: حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، والتعاون في الدفاع عن المدينة ضد أي عدوان خارجي (“وأن بينهم النصر على من دهم يثرب”)، والمساهمة المشتركة في النفقات الحربية، وتحريم إيواء المحدثين (مرتكبي الجرائم أو مثيري الفتن)، والرجوع إلى الله ورسوله في حالة وقوع أي خلاف. كان بنو النضير، كغيرهم من القبائل اليهودية، طرفًا في هذه المعاهدة، مما يعني أنهم قبلوا بهذه البنود والتزموا بها. كان هذا الميثاق يهدف إلى إيجاد مجتمع متماسك وآمن، تسوده العدالة والتعاون، بغض النظر عن الانتماء الديني أو القبلي. (للمزيد عن أهمية الوفاء بالعهود، انظر القسم الخامس: أهمية الوفاء بالعهود).
بوادر الغدر: حادثة بئر معونة وطلب الدية
رغم وضوح بنود “صحيفة المدينة” والعهود المبرمة، بدأت تظهر بعض التصدعات في العلاقة بين المسلمين وبعض القبائل اليهودية، ومنهم بنو النضير. من الأحداث التي شكلت منعطفًا وأدت إلى تصاعد التوتر كانت مأساة “بئر معونة”. فبعد غزوة أُحد، وفي ظل الأوضاع السياسية والعسكرية المضطربة، طمعت بعض القبائل في المسلمين. وفي هذا السياق، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سبعين من خيرة قراء الصحابة إلى قبائل نجد لدعوتهم إلى الإسلام، بناءً على طلب من أحد زعمائهم الذي أعطاهم الأمان. ولكن، غدرت بهم هذه القبائل عند بئر معونة، وقتلتهم جميعًا إلا القليل. كان من بين الناجين عمرو بن أمية الضمري، الذي كان يتمتع بشجاعة وقوة. في طريق عودته إلى المدينة، محملاً بالحزن والغضب على ما حل بأصحابه، صادف رجلين من بني عامر، وهما قبيلة كانت لها عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم. لكن عمرو بن أمية، في غمرة حزنه وظنه أنهما من القبائل الغادرة أو من المتعاونين معهم، قتلهما ثأرًا لما حدث في بئر معونة. لم يكن عمرو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أجار هذين الرجلين وأعطاهما الأمان. عندما وصل خبر مقتل العامريين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تألم لذلك وقال: “لقد قتلتَ قتيلين لأدينَّهما”. كان هذا الموقف يعكس التزام النبي صلى الله عليه وسلم بالعهود حتى مع غير المسلمين. وبموجب الأعراف القبلية والمعاهدات السارية، وجب على المسلمين دفع دية هذين القتيلين لقبيلة بني عامر. ونظرًا لأن بني النضير كانوا حلفاء لبني عامر، وكان من بنود “صحيفة المدينة” التعاون في دفع الديات (“وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة”)، فقد توجه النبي صلى الله عليه وسلم، بصحبة نفر من كبار أصحابه مثل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، إلى ديار بني النضير. كان الهدف من هذه الزيارة هو مطالبتهم بالمساهمة في دية القتيلين العامريين، تطبيقًا للعهد الذي يجمعهم. كانت هذه هي الخلفية المباشرة التي أدت إلى الزيارة المصيرية التي كشفت عن نوايا الغدر لدى بني النضير.
مؤامرة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
هذه الزيارة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلى ديار بني النضير، والتي كانت في ظاهرها لتطبيق بنود المعاهدة المتعلقة بالدية، تحولت بشكل مأساوي إلى كشف لمؤامرة غادرة كانت تُحاك في الخفاء. استقبل بنو النضير النبي صلى الله عليه وسلم بابتسامات زائفة وترحيب مصطنع، وأظهروا استعدادهم للمساهمة في الدية، قائلين: “نعم يا أبا القاسم، نُعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه”. طلبوا منه الانتظار ريثما يتشاورون ويجمعون المبلغ المطلوب. جلس النبي صلى الله عليه وسلم مستندًا إلى جدار أحد بيوتهم، ومعه كبار الصحابة ينتظرون. لكن في الخفاء، كان الشيطان يوسوس لبعض زعمائهم، وبدأت خيوط المؤامرة تُنسج. خلا بعضهم ببعض، وقالوا في غفلة من المسلمين: “إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه – وأشاروا إلى جلوس النبي صلى الله عليه وسلم مطمئنًا بجوار جدارهم – فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة (رحى كبيرة)، فيريحنا منه؟”. كانت هذه دعوة صريحة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، والتخلص منه ومن دعوته التي رأوا فيها خطرًا على مصالحهم. فانتدب لهذه المهمة القذرة رجل منهم، يُعتبر من أشقاهم، وهو عمرو بن جحاش بن كعب، الذي أبدى استعداده لتنفيذ الجريمة، وقال: “أنا لذلك”. وصعد بالفعل إلى سطح البيت، حاملًا الرحى، ينتظر اللحظة المناسبة لإلقائها على رأس النبي صلى الله عليه وسلم. كان من بين بني النضير من عارض هذه الفكرة الخبيثة، مثل سلام بن مِشْكَم، الذي حذرهم قائلاً: “يا قوم، لا تفعلوا، فوالله ليُخْبَرَنَّ بما هممتم به، وإنه لنقضٌ للعهد الذي بيننا وبينه”. لكن تحذيراته ذهبت أدراج الرياح، وغلب صوت الحقد والكراهية.
الوحي الإلهي ونجاة النبي
بينما كان عمرو بن جحاش يتربص على سطح البيت، والصخرة الثقيلة بين يديه، مستعدًا لإلقائها على النبي صلى الله عليه وسلم في لحظة غدر، تدخلت العناية الإلهية لحماية خاتم الأنبياء والمرسلين. في تلك اللحظات الحرجة، نزل أمين الوحي جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالمؤامرة الدنيئة التي يُدبرونها. على الفور، وبحكمة وسرعة بديهة، قام النبي صلى الله عليه وسلم من مجلسه، متظاهرًا بأنه ذاهب لقضاء حاجة، وانسل بهدوء متوجهًا نحو المدينة، دون أن يلفت انتباه بني النضير أو حتى يشعر أصحابه في تلك اللحظة بما حدث. بعد فترة، استبطأ الصحابة الكرام نبيهم صلى الله عليه وسلم، فطال عليهم غيابه، فقاموا يبحثون عنه. وفي طريقهم، التقوا برجل قادم من المدينة، فسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم أنه رآه يدخل المدينة. عندها، أدرك الصحابة أن أمرًا جللًا قد وقع. ولما التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخبرهم بتفاصيل المؤامرة التي دبرها بنو النضير لقتله، وكيف أن الله تعالى قد أنجاه منها بفضله ورحمته. كان هذا الكشف الإلهي برهانًا آخر على صدق نبوته وعصمة الله له، ومقدمة للأحداث التي ستتبعها، والتي ستؤدي إلى إجلاء بني النضير عن المدينة. (للمزيد عن نصر الله لرسوله، انظر الجزء الثاني: نصر الله لرسوله والمؤمنين).