الحصار ومحاولات المقاومة الفاشلة الجزء الثاني

إجلاء يهود بني النضير
الجزء الثاني: الحصار ومحاولات المقاومة الفاشلة
الإنذار الأخير والمهلة الممنوحة عبر محمد بن مسلمة
بعد انكشاف مؤامرة بني النضير الغادرة ومحاولتهم الفاشلة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا بد من موقف حاسم يتناسب مع حجم الخيانة ونقض العهد الصريح. لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليتساهل في أمر يمس أمن الدولة الإسلامية وسلامة شخصه الكريم. بناءً على ذلك، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل محمد بن مسلمة الأنصاري إلى بني النضير. كان اختيار محمد بن مسلمة لهذه المهمة دقيقًا، حيث كان حليفًا لبني النضير قبل الإسلام، وتربطه ببعضهم علاقات ومعرفة، مما قد يسهل إيصال الرسالة ويجعلها أوقع في نفوسهم. حمل محمد بن مسلمة رسالة واضحة وحازمة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير، قال لهم فيها: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي، فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر. وقد أجلتكم عشرًا، فمن رُئي منكم بعد ذلك ضربتُ عنقه”. كانت هذه مهلة أخيرة وفرصة لهم لمغادرة المدينة سلميًا خلال عشرة أيام، تجنبًا للمواجهة العسكرية. صُدم بنو النضير من سرعة وصول الخبر وكشف مؤامرتهم، وقالوا لمحمد بن مسلمة في دهشة واستغراب: “يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس!”، كأنهم كانوا يتوقعون منه، بحكم الحلف القديم، أن يكون أكثر تساهلاً معهم أو أن يقف في صفهم. لكن محمد بن مسلمة، الذي أصبح إيمانه بالإسلام راسخًا وولاؤه لله ورسوله مطلقًا، أجابهم بجملة قصيرة ولكنها عميقة الدلالة: “تغيرت القلوب”. أي أن الإسلام قد غيّر موازين الولاء والبراء، وأن رابطة الدين أقوى من أي روابط أخرى.
وساوس المنافقين بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول
في بادئ الأمر، وبعد وصول إنذار النبي صلى الله عليه وسلم، دبّ الرعب في قلوب بني النضير، وبدأوا بالفعل في التجهز للرحيل. أخذوا يجمعون أمتعتهم وما خف حمله وغلا ثمنه استعدادًا لمغادرة المدينة خلال المهلة المحددة. لكن، وكما هي عادة المنافقين في كل زمان ومكان، تدخلوا لتعكير الصفو وإثارة الفتنة. أرسل رأس النفاق في المدينة، عبد الله بن أُبيّ بن سلول، إلى بني النضير رسلًا من جماعته، ومنهم شخصيات بارزة في النفاق مثل سويد وداعس. حمل هؤلاء الرسل رسالة تحريضية من ابن أُبيّ إلى بني النضير، قال لهم فيها: “أن اثبتوا وتمنّعوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم، فيموتون عن آخرهم قبل أن يُوصل إليكم، ويمدكم حلفاؤكم من بني قريظة وقبيلة غطفان”. كانت هذه وعودًا كاذبة هدفها توريط بني النضير في مواجهة خاسرة مع المسلمين، وزعزعة استقرار الدولة الإسلامية. للأسف، صدّق بنو النضير هذه الوعود الجوفاء، واغتروا بمنعة حصونهم وما كانوا يدّخرونه من مؤن زعموا أنها تكفيهم لسنة كاملة، بالإضافة إلى مصادر المياه التي كانت داخل حصونهم ولا تنقطع. طمع سيدهم وزعيمهم حُييّ بن أخطب في هذه النصرة الموهومة، وتغير موقفه من الاستعداد للخروج إلى التحدي والمواجهة. فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسالة متعجرفة يقول فيها: “إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك”. كان هذا القرار المشؤوم، المبني على وعود المنافقين الكاذبة، هو الذي قاد بني النضير إلى نهايتهم المحتومة في المدينة. (للمزيد عن دور المنافقين، انظر الجزء الثالث: كشف المنافقين ودورهم الهدام).
أحداث الحصار ومقاومة بني النضير
عندما وصلت رسالة التحدي من حُييّ بن أخطب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن هناك مجال للتردد. كبّر النبي صلى الله عليه وسلم، وكبّر المسلمون معه تكبيرة الحرب، إيذانًا ببدء المواجهة ضد هؤلاء الناقضين للعهد والمتآمرين. استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة الصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم، وهو دليل على ثقته في قدرة المجتمع المدني على إدارة شؤونه الداخلية حتى في غياب القائد الأعلى. ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وتوجهوا نحو ديار بني النضير لفرض الحصار عليهم. تحصّن بنو النضير داخل حصونهم المنيعة، معتمدين على قوة أسوارها ووفرة المؤن والمياه لديهم، بالإضافة إلى وعود المنافقين وحلفائهم. بدأوا بمقاومة المسلمين من فوق أسوار الحصون، فكانوا يرمونهم بالنبل (السهام) والحجارة، محاولين إيقاع الخسائر في صفوف المسلمين ومنعهم من الاقتراب. استمر الحصار لعدة ليال، تذكر بعض الروايات أنها ست ليال، بينما تذكر روايات أخرى أنها امتدت إلى خمس عشرة ليلة. خلال هذا الحصار، كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبة (خيمة صغيرة من الجلد) تُضرب له، يجتمع فيها مع أصحابه للتشاور في أمور الحرب وتوجيه الخطط العسكرية. كان الحصار اختبارًا لصبر المسلمين وثباتهم، وكذلك كشفًا لمدى هشاشة وعود المنافقين الذين لم يجرؤوا على نصرة بني النضير كما وعدوا.
مقتل عزوك القناص على يد علي بن أبي طالب
خلال أيام الحصار، برز من بين صفوف بني النضير رجل يُدعى “عزوك”، والذي وُصف في بعض الروايات بأنه كان من أشجعهم وأمهرهم في الرمي. كان هذا الرجل قناصًا ماهرًا، يتميز بأنه يرمي بيساره (وهو أمر نادر بين الرماة العرب في ذلك الوقت)، وكان يُعرف بدقة رميه بحيث لا يكاد يخطئ هدفه. كان عزوك يتربص بالمسلمين من أعلى الحصون، ويشكل خطرًا عليهم بسهامه. في إحدى الليالي المظلمة، وبينما كان المسلمون يحاصرون بني النضير، لاحظ الصحابة أن سهمًا قد اخترق قبة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يجلس فيها للتشاور، مما أثار قلقهم على سلامة النبي. في رواية أخرى، يُذكر أن عزوك خرج مع نفر من أشجع رجال بني النضير في محاولة لاختراق الحصار أو ربما لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم. في ظل هذا التهديد، انبرى أسد الله الغالب، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لهذه المهمة الخطيرة. وقيل أيضًا أن الصحابي الجليل أبا دُجانة الأنصاري، صاحب العصابة الحمراء المشهورة، شاركه في ذلك. تسلل علي، وربما أبو دجانة معه، نحو مصدر الخطر. وفي مواجهة شجاعة، تمكن علي رضي الله عنه من قتل عزوك، وقيل أنه احتز رأسه وعاد به إلى معسكر المسلمين. كان مقتل هذا القناص الماهر ضربة قوية لمعنويات بني النضير، وزيادة في يأسهم، بينما كان نصرًا ورفعًا لمعنويات المسلمين. فرّ بقية المجموعة التي كانت مع عزوك عائدين إلى حصونهم مذعورين بعد مقتل قائدهم.
قطع النخيل: تكتيك حربي ورسالة ردع
مع استمرار الحصار وصلابة مقاومة بني النضير في البداية، اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرارًا تكتيكيًا يهدف إلى زيادة الضغط عليهم وإجبارهم على الاستسلام. أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل بني النضير وتحريقه. كان هذا الإجراء يستهدف أحد أهم مصادر قوتهم الاقتصادية واعتزازهم، فالنخيل يمثل لهم ثروة ومكانة. ورد في الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع وتحريق نوع معين من النخيل يُعرف بـ “اللينة”، وهو نوع من أجود أنواع التمر، وقيل أيضًا أنه أمر بقطع النخيل الذي لا يثمر (الذكور من النخيل) ليكون التأثير النفسي أكبر دون إهدار للثمر النافع بشكل كامل. كان الهدف من هذا الإجراء ليس الإفساد في الأرض لذاته، بل كان وسيلة ضغط حربية مشروعة في تلك الظروف لإضعاف معنويات العدو المحصن، وجعله يدرك جدية الموقف وأن المسلمين لن يتراجعوا عن حصارهم. أثار هذا الفعل حفيظة بني النضير، فتملكهم الغيظ والحسرة وهم يرون نخيلهم، مصدر فخرهم ورزقهم، يتهاوى أمام أعينهم. فنادوا من فوق حصونهم، مستنكرين ومحاولين إحراج المسلمين: “يا محمد، قد كنتَ تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟” كانوا يحاولون تصوير فعل المسلمين على أنه عمل تخريبي يتنافى مع مبادئ الرحمة التي يدعو إليها الإسلام. لكن الرد الإلهي جاء حاسمًا في سورة الحشر، حيث قال تعالى: “مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ” (الحشر: 5). هذه الآية الكريمة أوضحت أن هذا الفعل كان بأمر من الله تعالى، وبهدف إذلال الفاسقين الناقضين للعهد، وهو ما يجعله إجراءً مشروعًا في سياق تلك المواجهة. (للمزيد عن الآيات المتعلقة، انظر الجزء الثالث: سورة الحشر ونزولها في بني النضير).