أسيد بن حضير (رضي الله عنه): صاحب الصوت الملائكي وقصة الإيمان الخالد

اقرأ أيضاً:
- نوم النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر وقصة بلال
- الرجل الذي أرعب الفرس: قصة مجزأة بن ثور السدوسي
جدول المحتويات التفاعلي:
- مقدمة: نجم من نجوم الأنصار
- يثرب قبل شروق الإسلام: أرض خصبة للدعوة
- أسلوب مصعب الدعوي: الحكمة والموعظة الحسنة
- اللقاء المصيري: أسيد بن حضير ومصعب بن عمير
- إسلام أسيد: مفتاح هداية بني عبد الأشهل
- أسيد بن حضير والقرآن الكريم: علاقة استثنائية
- حب أسيد للنبي صلى الله عليه وسلم: مواقف خالدة
- حكمة أسيد وفقهه: موقف مع عمر بن الخطاب
- وفاة أسيد بن حضير وإرثه العظيم
- خاتمة: أسيد بن حضير قدوة للأجيال
- المصادر والمراجع
1. مقدمة: نجم من نجوم الأنصار
في سماء الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين، تتلألأ نجوم كثيرة، لكل منها ضياؤه الخاص وقصته الفريدة التي تلهم الأجيال. من بين هؤلاء النجوم الساطعة، يبرز اسم الصحابي الجليل أسيد بن حضير الأنصاري الأوسي الأشهلي (رضي الله عنه)، الرجل الذي جمع بين الشجاعة في ساحات الوغى، والحكمة في الرأي، والخشوع في العبادة، والصوت الندي الذي كانت الملائكة تتنزل لتستمع إليه وهو يتلو آيات القرآن الكريم. قصته ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي رحلة إيمانية عميقة، تكشف عن قوة الحق وتأثيره في النفوس الطيبة، وعن عظمة هذا الدين الذي استطاع أن يحول قلوباً كانت غارقة في جاهلية الشرك إلى منارات للهداية.
لم يكن أسيد بن حضير مجرد فرد عادي في مجتمعه قبل الإسلام، بل كان من أشراف قومه بني عبد الأشهل، ومن زعمائهم المرموقين، يُعرف بـ”الكامل” لرجاحة عقله، وإتقانه الكتابة والقراءة والرمي والسباحة، وهي صفات نادرة في ذلك الزمان. لكن النور الذي حمله الإسلام كان أعظم وأبقى، فاستجاب له قلبه، وتحول هذا الزعيم القبلي إلى جندي من جنود الله، ومصباح من مصابيح الهدى في المدينة المنورة. هذا المقال يسعى لاستعراض جوانب من حياة هذا الصحابي الجليل، بدءًا من ظروف دعوة الإسلام الأولى في يثرب، مرورًا بلحظة إسلامه الفارقة التي كانت بمثابة فتح مبين، وصولاً إلى مواقفه الإيمانية الخالدة وعلاقته الفريدة بالقرآن الكريم، وانتهاءً بوفاته التي تركت أثراً عميقاً في نفوس المسلمين.
2. يثرب قبل شروق الإسلام: أرض خصبة للدعوة
كانت يثرب، التي عُرفت فيما بعد بالمدينة المنورة، واحة خضراء وسط الصحراء، تسكنها قبائل عربية رئيسية هي الأوس والخزرج، إلى جانب تجمعات يهودية. لم تكن الحياة في يثرب هادئة تماماً قبل بزوغ فجر الإسلام؛ فقد كانت الحروب الداخلية تستنزف طاقات الأوس والخزرج، وأبرزها يوم بعاث الذي أضعف شوكتهم وجعلهم يتطلعون إلى مخلص يجمع كلمتهم ويوحد صفهم. هذا التطلع، إلى جانب ما كانوا يسمعونه من جيرانهم اليهود عن قرب ظهور نبي، جعل قلوب بعضهم مهيأة لقبول دعوة جديدة تحمل في طياتها السلام والعدل والتوحيد.
مصعب بن عمير: السفير الأول إلى المدينة
بعد بيعة العقبة الأولى، حيث بايع نفر من أهل يثرب النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، أدرك النبي بحكمته الثاقبة أن هذه المدينة الواعدة تحتاج إلى من يعلم أهلها أصول الدين الجديد ويرسخ الإيمان في قلوبهم. وقع اختياره على الشاب القرشي النبيل مصعب بن عمير (رضي الله عنه)، الذي كان يُعرف بـ”فتى مكة المدلل” قبل إسلامه، ثم أصبح رمزاً للتضحية والإيثار بعدما ترك نعيم الدنيا في سبيل عقيدته. هاجر مصعب إلى الحبشة فراراً بدينه من تعذيب قريش، ثم عاد ليحمل على عاتقه مهمة عظيمة: أن يكون أول سفير للإسلام إلى يثرب. لم تكن مهمة مصعب سهلة؛ فقد أُرسل إلى مجتمع جديد، بثقافته وعاداته، ليقدم لهم ديناً يغير مفاهيمهم الحياتية جذرياً. لكن مصعب كان أهلاً لهذه المسؤولية، بما أوتي من حكمة وفصاحة وصبر وجمال خلق وخُلق.

أسعد بن زرارة: أول مضيف وداعم
عندما وصل مصعب بن عمير إلى يثرب، لم يكن وحيداً. فقد استقبله أسعد بن زرارة الأنصاري (رضي الله عنه)، أحد النقباء الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة، وكان من أوائل من شرح الله صدرهم للإسلام من أهل يثرب. لم يتردد أسعد في استضافة مصعب وفتح بيته له، بل جعل من منزله مركزاً للدعوة الإسلامية. كان بيت أسعد بن زرارة بمثابة أول “مجلس” أو “مسجد” غير رسمي في المدينة، يجتمع فيه الناس للاستماع إلى مصعب وهو يتلو القرآن ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد. لقد وفر أسعد لمصعب الحماية والدعم اللازمين ليقوم بمهمته على أكمل وجه، ضارباً بذلك أروع الأمثلة في الكرم والإيثار ونصرة الحق. هذه البيئة الداعمة كانت حاسمة في نجاح أسلوب مصعب الدعوي في التأثير على قلوب أهل يثرب.
3. أسلوب مصعب الدعوي: الحكمة والموعظة الحسنة
تميز مصعب بن عمير (رضي الله عنه) بأسلوب دعوي فريد كان له أبلغ الأثر في نفوس أهل يثرب. لم يعتمد مصعب على الإكراه أو الجدال العقيم، بل كان يخاطب العقول والقلوب معاً. من أبرز سمات دعوته:
- الحجة والبرهان: كان مصعب يدعم كلامه بالحجج المنطقية والعقلية، ويناقش الناس في معتقداتهم السابقة، مبيناً لهم فساد عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وكيف أن الخالق المستحق للعبادة يجب أن يكون أقوى وأعظم من مخلوقاته.
- جمال التلاوة وحسن المنطق: وهب الله مصعباً صوتاً جميلاً في تلاوة القرآن، فكان إذا قرأ أسر القلوب وأخذ بمجامع الأفئدة. حتى الكفار كانوا يحرصون على الاستماع إليه، متأثرين بجمال الآيات وقوة معانيها. كان حديثه سلساً، ينتقل بين اللين والشدة بحسب المقام، وكأنه أُعد خصيصاً ليكون أول داعية في المدينة التي ستصبح منطلق الإسلام إلى العالم.
- الشخصية الجذابة: كان مصعب وسيماً، ذا سمت حسن، يشع وجهه نوراً وطمأنينة. لم يكن في مظهره ما ينفر الناس، بل كان الجميع يشعرون بالراحة في حضرته، ويأنسون لحديثه. هذه الجاذبية الشخصية، المقرونة بقوة الحجة وجمال العرض، جعلت الناس يقبلون على دعوته أفواجاً.
- الثقة بالنفس والتوكل على الله: كان مصعب واثقاً من الحق الذي يحمله، ومن نصر الله لدينه. هذه الثقة انعكست في هدوئه وثباته حتى في مواجهة المعارضين، مما زاد من احترام الناس له وتأثرهم بدعوته.
في كل مجلس يعقده مصعب، كان يسلم شخص أو اثنان أو أكثر، ويخرج الباقون وقد أُلقيت في قلوبهم بذور الشك في معتقداتهم القديمة، وبدأ فيهم الفضول والاهتمام بهذا الدين الجديد. كان نور الإسلام ينتشر بهدوء وثبات، يوماً بعد يوم، في بيوت يثرب، ممهداً الطريق لحدث عظيم سيغير مجرى التاريخ: اللقاء المصيري بين مصعب وأسيد بن حضير.
4. اللقاء المصيري: أسيد بن حضير ومصعب بن عمير
بينما كان مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة (رضي الله عنهما) يواصلان دعوتهما إلى الإسلام في يثرب، ويجتمع حولهما الناس، خاصة من الفقراء والمستضعفين الذين وجدوا في هذا الدين ملاذاً وكرامة، وصل خبر نشاطهما إلى زعماء قبيلة الأوس، وتحديداً إلى سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. كان أسيد، كما ذكرنا، من سادة قومه بني عبد الأشهل (وهم بطن من الأوس)، وكان معروفاً بقوته وشجاعته ورجاحة عقله.
غضب زعيم الأوس
وصل إلى سعد بن معاذ وأسيد بن حضير خبر انتشار دعوة مصعب، وأن هذا “الغريب المكي” قد بدأ “يفسد” شبابهم وضعفاءهم ويدعوهم إلى ترك دين آبائهم وأجدادهم. كان هذا الأمر مقلقاً لزعماء القبائل الذين رأوا في الدعوة الجديدة تهديداً لسلطتهم ونظامهم الاجتماعي القائم.
ولأن أسعد بن زرارة، مضيف مصعب، كان ابن خالة سعد بن معاذ، وجد سعد حرجاً في مواجهة مصعب بنفسه. فالتفت إلى أسيد بن حضير، وقال له ما معناه: “يا أسيد، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا ديارنا مرة أخرى. فلولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت (أي ابن خالتي وفي حمايتي)، لكفيتك ذلك”. كان كلام سعد يحمل غضباً وتحريضاً واضحاً.
حوار العقل والقلب
أخذ أسيد حربته، وركب فرسه، وانطلق بغضب شديد نحو البستان الذي كان يجلس فيه مصعب وأسعد مع جمع من الناس. كان منظره يوحي بالشر، وعيناه تقدحان غضباً. لما رآه أسعد بن زرارة مقبلاً، قال لمصعب: “أَيْ مُصْعَبُ، هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ، فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ”. كان أسعد يدرك أهمية أسيد، وأن إسلامه يعني الكثير.
وقف أسيد أمام الجمع، وبصوت جهوري غاضب، قال لمصعب وأسعد: “مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا؟ تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ!”.
في هذا الموقف المتوتر، لم يفقد مصعب بن عمير هدوءه ورباطة جأشه. بل نظر إلى أسيد بابتسامة وديعة، وقال بصوت هادئ ولين: “أَوَلَا تَجْلِسُ فَتَسْمَعَ؟ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ”.
كان هذا العرض المنطقي والهادئ مفاجئاً لأسيد. لقد جاء عازماً على طردهما وربما إيذائهما، فإذا به يُدعى إلى الجلوس والاستماع. هنا ظهرت حكمة أسيد، فبدلاً من أن يتمادى في غضبه، قال: “أَنْصَفْتَ”. ثم ركز حربته في الأرض وجلس.
نور الإيمان يشع في قلب أسيد
بدأ مصعب يتحدث عن الإسلام، وعن وحدانية الله، وعن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تلا عليه شيئاً من القرآن الكريم. كانت كلمات مصعب، وآيات القرآن التي رتلها بصوته العذب، تخترق قلب أسيد شيئاً فشيئاً. بدأت ملامح الغضب تتلاشى عن وجهه، وحل محلها الانبهار والتأثر. لم يطل الأمر كثيراً حتى قال أسيد: “مَا أَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟”
الله أكبر! لقد أسلم سيد بني عبد الأشهل في جلسة واحدة! الرجل الذي جاء ليطرد دعاة الإسلام، انتهى به الأمر معتنقاً له. فرح مصعب وأسعد فرحاً عظيماً بهذا النصر من الله. قالا له: “تَغْتَسِلُ فَتُطَهِّرُ ثَوْبَكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ”.
لم يتردد أسيد. قام إلى بئر قريبة كانت في البستان، فاغتسل وطهر ثيابه، ثم عاد ونطق بالشهادتين: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله”. ثم صلى ركعتين. وهكذا، دخل “الكامل”، أحد أشراف العرب وزعيم من زعماء الأوس، في دين الله. كان إسلامه بمثابة فتح عظيم، وبداية لسلسلة من الأحداث التي ستؤدي إلى إسلام قبيلته بأكملها.
5. إسلام أسيد: مفتاح هداية بني عبد الأشهل
لم يكن إسلام أسيد بن حضير (رضي الله عنه) حدثاً فردياً عابراً، بل كان له تبعات عظيمة على انتشار الإسلام في يثرب، وخاصة بين قومه بني عبد الأشهل وقبيلة الأوس بشكل عام. لقد كان أسيد، كما وصفه أسعد بن زرارة، “سيد قومه، وأعقلهم وأكملهم”، وإسلام شخص بمكانته وقدره لا بد أن يكون له تأثير واسع النطاق.
ذكاء أسيد في دعوة سعد بن معاذ
بعد أن أسلم أسيد، لم يكتفِ بذلك لنفسه، بل فكر مباشرة في زعيم الأوس الآخر، وصديقه، سعد بن معاذ. عاد أسيد إلى قومه وإلى سعد، وقد تغير وجهه وعلته السكينة والنور. لاحظ سعد بن معاذ هذا التغير بمجرد النظر إليه، فقال لمن حوله قبل أن يتكلم أسيد: “أُحْلِفُ بِاللَّهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ”. وهذا يدل على فراسة العرب وذكائهم.
عندما سأله سعد عما فعل، لم يخبره أسيد مباشرة بإسلامه، بل استخدم ذكاءً وحكمة لدفع سعد إلى الذهاب بنفسه لمقابلة مصعب. قال أسيد لسعد ما معناه: “لقد كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت”. ثم أضاف كلاماً أثار حمية سعد، حيث ذكر له أن بني حارثة (وهم فرع آخر من الأوس، وربما كان بينهم وبين بني عبد الأشهل تنافس) قد خرجوا ليقتلوا أسعد بن زرارة، وذلك لكي يُخفروا ذمة سعد (أي يجعلوه غير قادر على حماية ابن خالته).
كان هذا الكلام كافياً ليثير غضب سعد بن معاذ، الذي كان معروفاً بشجاعته وغيرته على قومه وحلفائه. أخذ حربته وانطلق مسرعاً نحو مصعب وأسعد، عازماً على تأديب بني حارثة وحماية ابن خالته. لم يكن يعلم أن أسيد قد دبر له هذا الأمر ليلتقي بمصعب ويسمع منه مباشرة، تماماً كما حدث مع أسيد نفسه.
إسلام سعد بن معاذ وإسلام قومه
وصل سعد بن معاذ إلى مصعب وأسعد، وهو في حالة من الغضب. ولكن عندما لم يجد أثراً لبني حارثة، وعرف أنها كانت حيلة من أسيد، توجه بكلامه إلى مصعب وأسعد. وكما فعل مصعب مع أسيد، عرض عليه أن يجلس ويستمع. قبل سعد العرض، وجلس.
تلا مصعب عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام. وما هي إلا لحظات حتى شرح الله صدر سعد للإسلام، تماماً كما شرح صدر أسيد من قبله. أعلن سعد إسلامه، واغتسل، وصلى ركعتين.
ثم قام سعد بن معاذ بعمل كان له أثر حاسم في تاريخ الدعوة في المدينة. عاد إلى قومه بني عبد الأشهل، وجمعهم، وقال لهم: “يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟” قالوا: “سَيِّدُنَا وَأَوْصَلُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً”. فقال سعد: “فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ”.
كان لكلمات سعد، زعيمهم المطاع، وقع الصاعقة. فما أمسى ذلك اليوم وفي دار من دور بني عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلماً أو مسلمة. لقد أسلمت قبيلة بأكملها في يوم واحد بفضل الله ثم بفضل إسلام زعمائها أسيد بن حضير وسعد بن معاذ (رضي الله عنهما). ويقال إنه لم يُعرف في بني عبد الأشهل منافق بعد ذلك اليوم.
كان هذا الانتصار العظيم للإسلام في يثرب بمثابة تمهيد الطريق لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وجعلها قاعدة للدولة الإسلامية الناشئة. وكان لأسيد بن حضير، بإسلامه المبكر وتأثيره، دور محوري في هذا التحول التاريخي. ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة أسيد مع الإيمان والجهاد، وتوثقت علاقته بالقرآن الكريم بشكل استثنائي.
6. أسيد بن حضير والقرآن الكريم: علاقة استثنائية
منذ اللحظة الأولى التي لامست فيها آيات القرآن الكريم قلب أسيد بن حضير (رضي الله عنه) على لسان مصعب بن عمير، نشأت بينه وبين كلام الله علاقة فريدة وعميقة. لم تكن الآيات التي سمعها مجرد كلمات مرت على أذنيه، بل كانت نوراً اخترق شغاف قلبه، ووقوداً أشعل فيه جذوة الإيمان، ومحفزاً لرابطة لا تنفصم بينه وبين القرآن. أصبح القرآن رفيق دربه، ومنهج حياته، ومصدر قوته وسكينته.
كان الصحابة يعرفون أسيداً كجندي باسل في ساحات القتال، يضرب بسيفه أعداء الله بلا هوادة، لا يخشى الموت ولا يهاب الأهوال. لكنهم كانوا يعرفونه أيضاً كعابد خاشع في جوف الليل، يقف بين يدي ربه يتلو آيات القرآن بصوت عذب ندي، يمزج بين القوة في الحق والرقة في المناجاة.

صوت تهتز له القلوب وتخشع له الملائكة
وهب الله أسيد بن حضير صوتاً جميلاً مؤثراً في تلاوة القرآن. كان إذا قرأ، أسر القلوب وشنّف الأسماع. وكان أحب الأوقات إليه لتلاوة القرآن هو وقت السحر، في هدأة الليل وسكونه، حين ينام الناس وتصفو السماء. كان يقوم الليل، فيصلي ويعطر أجواء المدينة المنورة بصوته الندي وهو يتلو كلام ربه. حتى أن بعض الصحابة كانوا يعرفون متى يقوم أسيد للصلاة في الليل، فيجتمعون قريباً من بيته ليستمتعوا بتلاوته العذبة الخاشعة، ويجدوا في صوته ما يرقق قلوبهم ويزيد إيمانهم.
ليلة تجلت فيها الكرامة: الملائكة تستمع
لم يكن البشر وحدهم من يستمتع بتلاوة أسيد ويخشع لها، بل إن الملائكة الكرام كانت تتنزل من السماء لتستمع إليه. تروي لنا كتب السنة قصة عجيبة حدثت لأسيد في إحدى الليالي، وهي من أشهر كراماته (رضي الله عنه).
كان أسيد جالساً في فناء بيته (مِرْبَدِهِ) في ليلة صافية مقمرة، وقد وضع ابنه يحيى، الذي كان صغيراً، لينام قريباً منه. وكان فرسه مربوطاً بجانبه. أراد أسيد أن يعطر تلك الليلة الهادئة بتلاوة القرآن، فبدأ يقرأ من سورة البقرة: “الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ…”
فجأة، بدأ الفرس يتحرك بعنف ويضطرب (جالت الفرس). استمر أسيد في القراءة: “الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ…” فازداد اضطراب الفرس وهيجانه، حتى كاد أن يقطع حبله.
توقف أسيد عن القراءة، فسكن الفرس وهدأ. استغرب أسيد من أمر الفرس، ثم عاد للقراءة مرة أخرى: “أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”. فعاد الفرس إلى نفس الحركات العنيفة، ولكن هذه المرة بشدة أكبر. توقف أسيد مرة أخرى، فسكن الفرس.
تكرر هذا الأمر مرة ثالثة، فخشي أسيد على ابنه يحيى أن تطأه الفرس، فقام ليأخذه. وبينما هو واقف، رفع بصره إلى السماء، فرأى مشهداً عجيباً لم ير مثله قط. رأى مثل الظُّلَّة (كهيئة السحابة أو المظلة)، فيها أمثال المصابيح أو السُّرُج، تضيء السماء من الشرق إلى الغرب، ثم بدأت ترتفع شيئاً فشيئاً حتى غابت عن بصره.
في الصباح، ذهب أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه ما رأى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ”. (رواه البخاري ومسلم).
يا لها من منزلة عظيمة! ويا له من شرف رفيع! أن تتنزل الملائكة الكرام من عليائها لتستمع إلى تلاوة عبد صالح من عباد الله. هذه القصة تبرز ليس فقط جمال صوت أسيد، بل الأهم من ذلك، إخلاصه وخشوعه وتدبره للقرآن، مما جعل لتلاوته هذا الأثر السماوي. لقد كان هذا الحدث بمثابة شهادة ربانية على مكانة أسيد وعلاقته بكتاب الله، وعلامة على حبه العميق للنبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا القرآن.
7. حب أسيد للنبي صلى الله عليه وسلم: مواقف خالدة
منذ أن وقعت عينا أسيد بن حضير (رضي الله عنه) على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة بعد هجرته إلى المدينة، ورأى في وجهه الكريم نور النبوة وصدق الرسالة والجمال الذي لم يعهده من قبل، امتلأ قلبه بحب عميق صادق لرسول الله. هذا الحب لم يكن مجرد عاطفة جياشة، بل ترجم إلى مواقف عملية وتضحيات جسام، وإلى حرص شديد على القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به. كان أسيد من أشد الصحابة حباً للنبي، وأكثرهم إيماناً بما جاء به، وهذا الحب تجلى في صور متعددة.
قصة القصاص: شوق لملامسة جسد النبي الطاهر
في إحدى المرات، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه، وكان أسيد بن حضير بينهم، وكان معروفاً بخفة روحه وحبه للمداعبة. وبينما كان النبي يضحك، وخز أسيداً في خاصرته بعود كان في يده وخزة خفيفة. فقال أسيد على الفور: “أَوْجَعْتَنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ!”. ثم أضاف: “أَقِدْنِي” (أي اقتص لي من نفسك).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المثل الأعلى في العدل والتواضع: “اسْتَقِدْ” (أي اقتص لنفسك).
فقال أسيد: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ حِينَ طَعَنْتَنِي”.
فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن رفع عن قميصه ليكشف عن بطنه الشريف ليقتص منه أسيد. وفي هذه اللحظة، وبدلاً من أن يقتص، انكب أسيد على بطن النبي صلى الله عليه وسلم يقبله ويعانقه، وهو يقول: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إنما أردتُ هذا”.
لقد كانت هذه أمنية في نفس أسيد، أن يمس جسده الطاهر جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يقبله. لقد كانت حيلة لطيفة من محب لمحبوبه، تعبر عن عمق الشوق والمودة التي يكنها أسيد لرسول الله. وهذا الموقف يظهر لنا مدى بساطة النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه، وقبوله لمثل هذه المداعبات من أصحابه، وفي نفس الوقت يكشف عن درجة الحب العظيمة التي وصل إليها الصحابة لنبيهم.
ثباته في غزوة أحد
لم يكن حب أسيد للنبي صلى الله عليه وسلم مجرد كلمات أو مشاعر، بل كان تضحية وفداء. وفي يوم أحد، عندما اشتد القتال ودارت الدائرة على المسلمين، وحوصر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المشركين، كان أسيد بن حضير من بين القلائل الذين ثبتوا حول رسول الله يدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة. قاتل أسيد قتال الأبطال، وأصيب بسبع طعنات قاتلة، كل واحدة منها كفيلة بأن تودي بحياته، لكنه ظل صامداً يواجه الموت في سبيل أن يبقى النبي صلى الله عليه وسلم سالماً. لقد كان على استعداد لأن يهلك ولا يصاب رسول الله بأذى، وهذا هو دأب المحبين الصادقين.
شفاعته للمحتاجين وكرم النبي صلى الله عليه وسلم
كان أسيد (رضي الله عنه) حريصاً ليس فقط على نفسه، بل على مجتمعه وإخوانه المسلمين. في إحدى المرات، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لأهل بيت من الأنصار كانوا فقراء جداً، ومعظمهم نساء، ليس لهم من يعيلهم أو يوفر لهم قوت يومهم. طلب أسيد من النبي أن يشاركهم من الصدقات والغنائم.
أجاب النبي صلى الله عليه وسلم برفق وحكمة: “يَا أُسَيْدُ، لَقَدْ جِئْتَنَا بَعْدَ أَنْ أَنْفَقْنَا كُلَّ مَا لَدَيْنَا. إِذَا سَمِعْتَ أَنَّنَا تَلَقَّيْنَا شَيْئًا، فَذَكِّرْنَا بِهَذِهِ الْعَائِلَةِ”.
وبالفعل، عندما جاءت غنائم غزوة خيبر، قسم النبي صلى الله عليه وسلم منها على المسلمين، وأعطى أهل ذلك البيت عطاءً جزيلاً حتى أغناهم. نظر أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرى هذا الكرم والإنصاف، فقال شاكراً: “جَزَاكَ اللَّهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ خَيْرًا”.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، فَجَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا، فَإِنَّكُمْ مَا عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبُرٌ. أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ”.
“الأثرة” تعني الاستئثار بالشيء وحرمان الآخرين منه. وفي هذه الكلمات، نبوءة من النبي صلى الله عليه وسلم بما سيحدث بعد وفاته من استئثار بعض الحكام بالدنيا، ووصية للأنصار وللمؤمنين بالصبر، وبشرى لهم باللقاء على الحوض يوم القيامة. والحوض هو كرامة عظيمة للمؤمنين، حيث يسقيهم النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة شربة لا يظمأون بعدها أبداً. هذا الحديث يظهر مكانة أسيد والأنصار عند النبي، ويثبت حكمته وفقهه العميق الذي تجلى في مواقف أخرى.
8. حكمة أسيد وفقهه: موقف مع عمر بن الخطاب
لم يكن أسيد بن حضير (رضي الله عنه) مجرد فارس شجاع أو عابد قانت أو محب صادق للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كان أيضاً صاحب حكمة وفقه ورجاحة عقل. هذه الصفات، التي عُرف بها حتى قبل إسلامه ولقب بسببها بـ”الكامل”، ازدادت نوراً وصقلاً بعد دخوله في الإسلام وتعمقه في تعاليمه. وقد تجلت حكمته وفقهه في مواقف متعددة، من أبرزها موقفه الذي يروى مع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بشأن حديث “الأثرة”.
حديث “الأثرة” وتطبيقه
في عهد خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، كان عمر معروفاً بعدله الشديد وحرصه على توزيع الحقوق والغنائم بين المسلمين بالقسطاس المستقيم. كان الخليفة آخر من يأخذ، وهذا دليل على زهدهم وإنصافهم. في إحدى المرات، قسم عمر الغنائم بين المسلمين، وكان من نصيب أسيد بن حضير حُلية (شيء يُلبس للزينة). يروي أسيد أنه لم يعرها اهتماماً كبيراً في البداية، لكنه قبلها.
وفي أحد الأيام، بينما كان أسيد يصلي في المسجد، مرّ به رجل من قريش يرتدي حُلية فاخرة وجميلة، أجمل بكثير من الحلية التي كانت لديه. يقول أسيد إنه قارن تلقائياً بين الحليتين، وأول ما خطر بباله هو قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه مباشرة: “أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ”. (ستجدون الأنانية والاستئثار بالدنيا بعدي).
فتمتم أسيد بهذه الكلمات، أو قالها بصوت سمعه أحد الجالسين في المسجد. هذا الرجل، بحرصه على عدم وقوع أي ظلم أو سوء فهم، ذهب مباشرة وأخبر عمر بن الخطاب بما سمعه من أسيد. لم يكن أسيد يعلم أن الرجل سيخبر عمر.
بينما كان أسيد لا يزال في صلاته، أو قد فرغ منها للتو، جاءه عمر بن الخطاب بنفسه. فقال له عمر: “صَلِّ يَا أُسَيْدُ” (أي أكمل صلاتك إن لم تكن قد انتهيت). فلما فرغ أسيد من صلاته، نظر إليه عمر وسأله: “مَاذَا قُلْتَ يَا أُسَيْدُ؟”
لم يحاول أسيد أن يخفي شيئاً، بل أخبر عمر بما حدث، وكيف رأى الحلية الفاخرة مع القرشي، فتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن “الأثرة”، وكيف أن هذا الذكرى هي ما دفعته لقول ما قال.
هنا، تجلت حكمة عمر وعدله، وحرصه على تبديد أي شبهة ظلم قد تلحق به أو بإدارته. قال عمر لأسيد موضحاً ومطمئناً: “غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أُسَيْدُ. إِنَّ تِلْكَ الْحُلِيَّةَ كُنْتُ قَدْ بَعَثْتُ بِهَا إِلَى فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ (أحد الأنصار). وَلَكِنَّ هَذَا الْقُرَشِيَّ اشْتَرَاهَا مِنْ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيِّ فَلَبِسَهَا، فَصَارَتْ لَهُ. أَتَظُنُّ أَنَّ هَذَا كَانَ لِيَحْدُثَ فِي عَهْدِي يَا أُسَيْدُ! غَفَرَ اللَّهُ لَكَ”.
أدرك أسيد الموقف، واطمأن قلبه لعدل عمر وإنصافه، فقال: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا سَيَحْدُثُ فِي عَهْدِكَ”.
هذا الموقف يظهر لنا عدة أمور:
- ورع الصحابة وحساسيتهم تجاه أي شبهة ظلم أو محاباة، حتى وإن كانت مجرد خواطر.
- حرص الخلفاء الراشدين على العدل المطلق وتبرئة ساحتهم أمام الله وأمام الناس.
- فقه أسيد بن حضير وتذكره الدائم لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها على الواقع، وإن كان قد أخطأ في تقدير الموقف في هذه الحالة، إلا أن أساس تفكيره كان مبنياً على وصية نبوية.
- أهمية الشفافية والتوضيح في إزالة اللبس وسوء الفهم بين الراعي والرعية.
لقد كان أسيد بن حضير نموذجاً للمؤمن الذي يعيش حياته وفقاً لتعاليم دينه، يستنير بهدي نبيه، ويحرص على العدل والإنصاف. وهذه القيم هي التي جعلته منارة في قومه، ورجلاً خالداً في تاريخ الإسلام، حتى وافته المنية وهو على هذا العهد.
9. وفاة أسيد بن حضير وإرثه العظيم
عاش أسيد بن حضير (رضي الله عنه) حياة حافلة بالإيمان والجهاد والعلم والعمل، وكان مثالاً للمؤمن الصادق الذي يجمع بين قوة الحق ورقة القلب، وبين الشجاعة في الميدان والخشوع في المحراب. وبعد مسيرة عطرة في خدمة الإسلام ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم، جاءت لحظة الرحيل إلى الرفيق الأعلى.
توفي أسيد بن حضير (رضي الله عنه) في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وقيل في سنة عشرين أو إحدى وعشرين للهجرة. لقد ترك وفاته حزناً عميقاً في قلوب الصحابة، الذين فقدوا برحيله أخاً كريماً، وعالماً حكيماً، وقائداً ملهماً. بكاه أهل المدينة، وتذكروا أيامه المضيئة، ولياليه التي كان يعطرها بتلاوة القرآن بصوته الندي الذي كانت الملائكة تتنزل لسماعه.
حزن الصحابة ووفاء عمر بن الخطاب
عندما توفي أسيد، خرج عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بنفسه ليصلي عليه، وحمل نعشه، وشارك في تشييعه إلى مقبرة البقيع، حيث ووري الثرى بجوار العديد من الصحابة الكرام. هذا الاهتمام من الخليفة يعكس مكانة أسيد وقدره في الإسلام.
بعد دفنه، ذهب عمر بن الخطاب لينظر في وصية أسيد. وعندما فتحها، وجد أن على أسيد ديناً كبيراً يبلغ أربعة آلاف درهم (وفي بعض الروايات أربعمائة ألف، وهو مبلغ ضخم جداً، ولعل الرواية الأولى أصح). كان أسيد قد استدان هذا المبلغ لينفق منه على نفسه وأهله وفي سبيل الله، ولم يترك ما يكفي لسداده.
اجتمع ورثة أسيد، وكان لديهم أرض يملكونها، فقرروا بيعها لسداد دين والدهم. ولكن عندما علم عمر بن الخطاب بخطتهم هذه، رفض بشدة. لم يرد عمر أن يترك أبناء أسيد، ابن عمه (حيث كان الأوس والخزرج يعتبرون أبناء عمومة)، يصبحون فقراء أو عبئاً على الناس بعد وفاة أبيهم.
وهنا تجلت عظمة وفاء عمر وعدله وحكمته. قال عمر: “لَا أَدَعُ ابْنَ عَمِّي أُسَيْدًا يَكُونُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ” (أي عبئاً عليهم). ثم قام عمر بعمل فريد: ذهب إلى أصحاب الدين (الدائنين) واتفق معهم على تسوية مبتكرة. عرض عليهم أن يأخذوا ثمار أرض أسيد لمدة أربع سنوات مجاناً، دون أن يدفعوا أي مقابل، بمعدل ألف درهم (قيمة الثمار) كل عام. وبهذه الطريقة، يتم سداد دين أسيد كاملاً خلال أربع سنوات، وفي نفس الوقت تبقى الأرض ملكاً لورثته، ولا يضطرون لبيعها أو تحمل عبء الدين.
وافق الدائنون على هذا العرض، وهكذا تم سداد دين أسيد بن حضير (رضي الله عنه) بفضل حكمة ووفاء عمر بن الخطاب. هذا الموقف يظهر لنا مدى التكافل الاجتماعي الذي كان سائداً في المجتمع الإسلامي الأول، وكيف كان الخلفاء يهتمون بشؤون رعيتهم، أحياءً وأمواتاً.
رضي الله عنك يا أسيد، وجزاك عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. لقد تركت لنا إرثاً عظيماً من الإيمان والشجاعة والحكمة وحب القرآن، ونسأل الله أن يجمعنا بك وبنبيه الكريم على حوضه الشريف يوم القيامة.
10. خاتمة: أسيد بن حضير قدوة للأجيال
إن سيرة الصحابي الجليل أسيد بن حضير (رضي الله عنه) تمثل نموذجاً فريداً للمؤمن الذي استجاب لنداء الحق بقلب سليم وعقل راجح. فمن زعيم قبلي مرموق في جاهليته، تحول بفضل نور الإسلام إلى منارة هدى، وقائد فذ، وعابد خاشع، وعالم فقيه. قصته، منذ لحظة إسلامه المدوية التي كانت سبباً في إسلام قبيلة بأكملها، مروراً بعلاقته الاستثنائية بالقرآن الكريم التي جعلت الملائكة تستمع إليه، ومواقفه الخالدة في حب النبي صلى الله عليه وسلم والتضحية في سبيله، وصولاً إلى حكمته وعدله التي شهد بها القاصي والداني، كلها دروس وعبر للأجيال المتعاقبة.
لقد علمنا أسيد بن حضير أن الإيمان الحقيقي ليس مجرد كلمة تقال، بل هو عمل وتضحية، وثبات على المبدأ، وحب لله ورسوله يفوق كل حب. وعلمنا أن القرآن الكريم ليس كتاباً يُقرأ فحسب، بل هو نور يُستضاء به، ومنهج حياة يُتبع، وشفاء لما في الصدور، وأن العلاقة الصادقة معه تفتح أبواب الكرامات والبركات.
كما ضرب لنا أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام في نصرة الحق، وفي الحكمة والتعقل في معالجة الأمور، وفي التواضع والإنصاف في التعامل مع الناس. حتى في لحظات وفاته وما تلاها من سداد دينه، نرى كيف أن الله تعالى يكرم أولياءه الصالحين ويسخر لهم من يقضي حوائجهم ويحفظ ذكرهم الطيب.
إن حياة أسيد بن حضير (رضي الله عنه) دعوة لكل مسلم لأن يراجع علاقته بربه، وبكتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. هي دعوة لأن يكون المسلم فاعلاً في مجتمعه، مؤثراً بإيجابية، حاملاً لهموم أمته، ساعياً في الخير، متسلحاً بالعلم والإيمان.
فسلام على أسيد بن حضير يوم أسلم، ويوم مات، ويوم يبعث حياً. ونسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يجمعنا به وبإخوانه من الصحابة الكرام في جنات النعيم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
11. المصادر والمراجع
استند هذا المقال في معلوماته بشكل أساسي إلى الروايات والسير المتواترة عن الصحابي الجليل أسيد بن حضير (رضي الله عنه) كما وردت في كتب السنة والتاريخ الإسلامي المعتبرة. وللتوسع، يمكن الرجوع إلى المصادر التالية (مع الإشارة إلى أن بعض الروابط المقدمة في الطلب الأصلي قد استخدمت كمرجع للقصص المذكورة):
- القرآن الكريم.
- كتب الحديث الشريف المعتمدة (مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم، خاصة فيما يتعلق بحديث نزول الملائكة لسماع تلاوته).
- كتب السيرة النبوية (مثل سيرة ابن هشام، الرحيق المختوم).
- كتب تراجم الصحابة (مثل “سير أعلام النبلاء” للذهبي، “الإصابة في تمييز الصحابة” لابن حجر العسقلاني، “أسد الغابة في معرفة الصحابة” لابن الأثير).
- الصحابي الذي أراد القصاص من رسول الله (فيديو توضيحي عن القصة) – (يحتوي على تفاصيل قصة القصاص والمواقف الأخرى المذكورة).
- المقالات ذات الصلة على موقع kuratine.com .