قصص

علاء الدين ابن النفيس وثورته الهادئة في علم التشريح

جدول المحتويات التفاعلي:

  1. مقدمة: عبقرية منسية في زمن الازدهار
  2. السياق التاريخي والعلمي
  3. علاء الدين ابن النفيس: الطبيب الفيلسوف
  4. كتاب “شرح تشريح القانون”: نظرة معمقة
  5. منهجية ابن النفيس النقدية والتجريبية
  6. أهمية “شرح تشريح القانون” وتأثيره
  7. خاتمة: إرث ابن النفيس الخالد
  8. المراجع والروابط الخارجية

1. مقدمة: عبقرية منسية في زمن الازدهار

في خضم العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، حيث ازدهرت العلوم والفنون، برزت أسماء لامعة أضاءت سماء المعرفة الإنسانية. من بين هؤلاء، يقف علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي، المعروف بـابن النفيس (ت 687هـ/1288م)، كأحد أبرز علماء الطب في التاريخ. لم يكن طبيباً تقليدياً يكتفي بترديد ما سطره الأوائل، بل كان باحثاً مدققاً، وعقلاً نقدياً فذاً، تجرأ على تحدي نظريات راسخة ظلت مهيمنة لقرون. ويعد كتابه “شرح تشريح القانون لابن سينا” أحد أهم أعماله، بل وثيقة علمية ثورية، خاصة فيما يتعلق باكتشافه للدورة الدموية الصغرى (الرئوية)، وهو اكتشاف سبق به علماء أوروبا بثلاثة قرون على الأقل. تستهدف هذه المقالة استعراض هذا العمل الفذ، وتسليط الضوء على محتواه وأهميته التاريخية والعلمية، مع الإشارة إلى منهجية ابن النفيس النقدية التي مكنته من تحقيق هذه الإنجازات.

2. السياق التاريخي والعلمي

لفهم عمق إسهام ابن النفيس، لا بد من إلقاء نظرة على البيئة العلمية التي نشأ فيها، وتحديداً الوضع المعرفي في علم التشريح والفيزيولوجيا.

2.1. القانون في الطب لابن سينا: موسوعة العصور

يُعتبر كتاب القانون في الطب للشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428هـ/1037م) أحد أضخم وأهم الموسوعات الطبية في التاريخ. ظل هذا الكتاب المرجع الأساسي لتدريس الطب في الشرق والغرب لعدة قرون، وترجم إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوروبية. تناول “القانون” مختلف جوانب الطب، بما في ذلك التشريح (الذي خُصص له الكتاب الأول بشكل رئيسي، وأجزاء من الكتاب الثالث). ومع أهميته، اعتمد ابن سينا في وصفه للتشريح بشكل كبير على أعمال من سبقوه، وعلى رأسهم الطبيب الإغريقي جالينوس.

2.2. التشريح الجالينوسي: النموذج السائد

كانت آراء جالينوس (ت نحو 216م) هي المهيمنة على الفكر الطبي في مجال التشريح ووظائف الأعضاء لأكثر من ألف عام. اعتمد جالينوس على تشريح الحيوانات (خاصة القردة والخنازير) واستقراء النتائج على الإنسان، مما أدى إلى بعض المفاهيم الخاطئة. من أبرز هذه المفاهيم، التي تبناها ابن سينا لاحقاً في القانون، الاعتقاد بأن الدم ينتقل من البطين الأيمن للقلب إلى البطين الأيسر عبر مسام غير مرئية في الحاجز البطيني (septum)، وأن الكبد هو مركز تكون الدم. هذه الأفكار شكلت تحدياً لأي محاولة للتجديد أو التصحيح.

3. علاء الدين ابن النفيس: الطبيب الفيلسوف

3.1. نشأته وتعليمه

ولد علاء الدين ابن النفيس بالقرب من دمشق حوالي عام 607هـ (1210م). تلقى تعليمه الطبي في البيمارستان النوري الكبير بدمشق، وهو أحد أهم المراكز الطبية والتعليمية في ذلك العصر. درس على يد أطباء مشهورين مثل مهذب الدين الدخوار. لم يقتصر اهتمامه على الطب، بل شمل الفقه الشافعي واللغة والمنطق والفلسفة، مما أكسبه رؤية موسوعية وقدرة تحليلية نادرة.

3.2. مسيرته المهنية وإسهاماته المتعددة

انتقل ابن النفيس إلى القاهرة، حيث عمل في البيمارستان الناصري ثم البيمارستان المنصوري (قلاوون)، وأصبح رئيساً للأطباء (“عميداً للبيمارستان”) وطبيباً خاصاً للسلطان الظاهر بيبرس. إلى جانب شرح تشريح القانون، ألف ابن النفيس العديد من الكتب القيمة، منها “الشامل في الصناعة الطبية” (موسوعة طبية ضخمة كان ينوي أن تكون أكبر من القانون)، و”الموجز في الطب” (مختصر لكتاب القانون)، وكتب في الفقه والحديث واللغة. توفي ابن النفيس في القاهرة عام 687هـ (1288م)، تاركاً وراءه إرثاً علمياً عظيماً.

4. كتاب “شرح تشريح القانون”: نظرة معمقة

يُعد كتاب “شرح تشريح القانون” لابن النفيس، الذي ركز فيه على تشريح الكتاب الثالث من “قانون” ابن سينا، بمثابة تعليق نقدي وتصحيحي لأعمال ابن سينا، وبالتالي لأعمال جالينوس. الكتاب ليس مجرد تلخيص أو إعادة صياغة، بل هو عمل إبداعي أصيل يعكس عبقرية مؤلفه.

4.1. دوافع التأليف ومنهجية ابن النفيس

كان الدافع الرئيسي لابن النفيس هو “تصحيح الأوهام” و”إزالة الشكوك” التي أحاطت بعلم التشريح الموروث. صرح في مقدمة كتابه بأنه يعتمد على “البرهان والحس والمشاهدة”، وإن كان هناك جدل حول مدى ممارسته للتشريح البشري بنفسه، إلا أن وصفه الدقيق يوحي بملاحظات مباشرة أو فهم عميق مبني على استنتاجات منطقية قوية جداً. انتقد ابن النفيس الاعتماد الأعمى على الأقدمين، قائلاً: “وإذا لم يكن قول جالينوس في ذلك موافقاً لما يقتضيه النظر البرهاني، فلا علينا منه، سواء سلمناه له أو لم نسلمه.” وهذا يوضح منهجيته النقدية.

4.2. الاكتشاف الأعظم: الدورة الدموية الصغرى (الرئوية)

يُعتبر اكتشاف ووصف الدورة الدموية الصغرى (الرئوية) هو الإسهام الأبرز لابن النفيس في هذا الكتاب، والذي خلد اسمه في تاريخ الطب.

4.2.1. نظرية جالينوس وابن سينا حول حركة الدم

كما أشرنا في قسم التشريح الجالينوسي، كان الاعتقاد السائد أن الدم يتولد في الكبد، ثم ينتقل إلى البطين الأيمن للقلب. ومن هناك، كان يُعتقد أن جزءاً منه يتسرب عبر الحاجز بين البطينين (septum) من خلال مسام دقيقة غير مرئية ليصل إلى البطين الأيسر، حيث يمتزج بالهواء القادم من الرئتين (الروح الحيوية) ثم يُضخ إلى أنحاء الجسم. أما الجزء الآخر من الدم في البطين الأيمن فيذهب إلى الرئة لتغذيتها.

4.2.2. تصحيح ابن النفيس الثوري

رفض ابن النفيس بشكل قاطع فكرة وجود مسام في الحاجز البطيني. وفي وصفه لحركة الدم، قال ما معناه:
“وإذا رقّ الدم في هذا التجويف (البطين الأيمن)، فلا بد أن ينفذ إلى التجويف الأيسر حيث يتولد الروح، وليس بينهما منفذ، فإن جرم القلب هناك مصمت ليس فيه منفذ ظاهر، كما ظنه جماعة، ولا منفذ غير ظاهر يصلح لنفوذ هذا الدم، كما ظنه جالينوس. … بل لا بد أن يكون نفوذ هذا الدم إذا رقّ في الشريان الوريدي (الشريان الرئوي حالياً) إلى الرئة لينبثّ في جرمها، ويمازج الهواء، ويصفى ألطفه، وينفذ إلى الوريد الشرياني (الأوردة الرئوية حالياً) ليصل إلى التجويف الأيسر من تجويفي القلب، وقد مازج الهواء، وصار صالحاً لأن يتولد منه الروح.”

بهذا الوصف الدقيق، يكون ابن النفيس قد:

  1. نفى وجود أي ممر مباشر بين البطينين.
  2. أكد أن الدم يمر من البطين الأيمن إلى الرئتين عبر الشريان الرئوي.
  3. أوضح أن الدم يمتزج بالهواء في الرئتين.
  4. بين أن الدم المنقى يعود من الرئتين إلى البطين الأيسر عبر الأوردة الرئوية.

وهذا هو جوهر الدورة الدموية الصغرى (Pulmonary Circulation).

4.3. إسهامات تشريحية أخرى في الشرح

لم يقتصر إبداع ابن النفيس على الدورة الدموية الصغرى، بل قدم تصحيحات وملاحظات هامة في أجزاء أخرى من التشريح.

4.3.1. تشريح القلب والشرايين التاجية

وصف ابن النفيس القلب بأنه يتكون من بطينين فقط (الأيمن والأيسر)، وليس ثلاثة كما كان يعتقد البعض. كما أشار إلى أن عضلة القلب تتغذى من الدم الذي يمر في الأوعية المنتشرة في جرم القلب نفسه، وهو وصف يقترب من فهم وظيفة الشرايين التاجية (Coronary Arteries)، مما يعد إرهاصاً مبكراً لفهم الدورة التاجية.

4.3.2. نقد مفاهيم حول الدماغ والأعصاب

انتقد ابن النفيس بعض آراء جالينوس وابن سينا حول تشريح الدماغ ووظائف الأعصاب، مثل مسألة اتصال العصب البصري بالعين وتكوين الصور. وإن لم يصل إلى الفهم الحديث الكامل، إلا أن نقده كان خطوة مهمة نحو التفكير المستقل.

5. منهجية ابن النفيس النقدية والتجريبية

تميز ابن النفيس بمنهج علمي رصين يجمع بين الاستدلال المنطقي القوي (البرهان) والملاحظة الدقيقة (الحس والمشاهدة). لم يتردد في نقد آراء الأعلام كجالينوس وابن سينا إذا تعارضت مع ما يراه صواباً. هذا التوجه النقدي، بالإضافة إلى إيمانه بأهمية الملاحظة المباشرة – سواء كانت من تشريحات حيوانية أو بشرية (وهو أمر محل نقاش بين المؤرخين، وإن كان وصفه للدورة الرئوية يوحي بقوة بأنه اعتمد على ملاحظات تشريحية دقيقة) – هو ما قاده إلى اكتشافاته الثورية. إن دعوته للاعتماد على البرهان والمشاهدة تعد من أبرز سمات تفكيره العلمي المتقدم.

6. أهمية “شرح تشريح القانون” وتأثيره

6.1. التأثير في العالم الإسلامي

حظي كتاب “شرح تشريح القانون” باهتمام في العالم الإسلامي، ونُسخ عدة مرات. ومع ذلك، يبدو أن اكتشافه للدورة الدموية الصغرى لم يلقَ الانتشار الواسع الذي يستحقه، ربما بسبب ضخامة مؤلفات ابن النفيس الأخرى أو لعدم إدراك الأهمية الكاملة لهذا الاكتشاف في حينه.

6.2. قضية الاكتشاف المنسوب للغرب وإعادة الاعتبار

ظل اكتشاف الدورة الدموية الصغرى منسوباً لعلماء أوروبيين مثل مايكل سيرفيتوس (1553م) وريالدو كولومبو (1559م) حتى القرن العشرين. في عام 1924م، اكتشف الطبيب المصري الدكتور محيي الدين التطاوي مخطوطة “شرح تشريح القانون” في مكتبة برلين الحكومية، وأدرك الأهمية البالغة لما ورد فيها حول الدورة الدموية الصغرى. أثار هذا الاكتشاف جدلاً واسعاً حول أسبقية ابن النفيس وإمكانية انتقال علمه إلى أوروبا بطريقة ما، وإن لم يتم إثبات ذلك بشكل قاطع حتى الآن.
بغض النظر عن مسألة الانتقال، فإن الوثائق تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ابن النفيس هو المكتشف الأول للدورة الدموية الصغرى، وأن وصفه كان دقيقاً وعلمياً. وهذا يعيد الاعتبار لهذا العالم الفذ ويضعه في مصاف كبار المكتشفين في تاريخ الطب. (للمزيد، يمكن الاطلاع على دراسات مثل “Ibn al-Nafis and the discovery of the pulmonary circulation”).

7. خاتمة: إرث ابن النفيس الخالد

يمثل علاء الدين ابن النفيس نموذجاً للعالم الموسوعي والناقد البصير الذي لم يكتفِ بترديد معارف السابقين، بل سعى إلى التحقق والتصحيح والإضافة. إن كتابه “شرح تشريح القانون”، بما تضمنه من اكتشاف ثوري للدورة الدموية الصغرى وتصحيحات تشريحية أخرى، ليس مجرد إسهام طبي، بل هو شاهد على حيوية الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية وقدرته على الابتكار والتجديد.
إن إعادة اكتشاف أعمال ابن النفيس في العصر الحديث تعد تذكيراً بأهمية البحث في التراث العلمي العربي والإسلامي، وضرورة إنصافه وإعطائه المكانة التي يستحقها في مسيرة التقدم العلمي الإنساني. لقد ترك ابن النفيس إرثاً خالداً يستحق الدراسة والتقدير، ويلهم الأجيال الجديدة من الباحثين للسير على دربه في البحث عن الحقيقة بشجاعة وتجرد.

8. المراجع والروابط الخارجية

  1. ابن سينا.القانون في الطب. (متاح للبحث عبر الإنترنت في مصادر متعددة).
  2. ابن النفيس، علاء الدين. شرح تشريح القانون لابن سينا. (يتطلب البحث عن مخطوطات أو طبعات محققة، مثل تحقيق د. سلمان قطاية أو د. يوسف زيدان).
  3. مقالة عن جالينوس على موسوعة بريتانيكا (إنجليزية): https://www.britannica.com/biography/Galen-of-Pergamum
  4. West, John B. “Ibn al-Nafis, the pulmonary circulation, and the Islamic Golden Age.”Journal of Applied Physiology, 105(6), 1877-1880, 2008.
  5. مقالة عن الشرايين التاجية من مايو كلينك (عربية): https://www.mayoclinic.org/ar/diseases-conditions/coronary-artery-disease/symptoms-causes/syc-20351574

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى