غزوة خيبر مجاعة واختبارات إيمان وفتح مبين

جدول المحتويات:
- مقدمة: ما بعد حصن ناعم
- حصون خيبر: تكتيكات الحصار والمؤونة الشحيحة
- المجاعة القاسية واختبارات الإيمان
- الفرج يأتي: أحداث غيرت مجرى المعركة
- سقوط الحصون المتبقية واستسلام خيبر
- ما بعد الفتح: وصية النبي صلى الله عليه وسلم
- خاتمة: دروس وعبر من غزوة خيبر
- المصادر وروابط خارجية
1. مقدمة: ما بعد حصن ناعم
في أعقاب الفتح الشاق لـحصن ناعم، أول حصون خيبر المنيعة، والذي استغرق من المسلمين خمسة عشر يومًا، وجد الجيش الإسلامي بقيادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه أمام تحدٍّ جديد وأكثر قسوة. فخيبر، كما ذكرنا سابقًا، كانت عبارة عن سلسلة من الحصون الضخمة والمتعددة، المليئة بالخيرات والكنوز. وكان فتح هذه الحصون يتطلب ليس فقط الوقت والقوة والاجتهاد، بل وأيضًا الإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى. كل هذه العوامل كانت متوفرة لدى المسلمين، إلا عنصرًا حيويًا بدأ بالنفاذ: المؤونة. لقد كانت المؤونة قليلة جدًا، ومع طول مدة حصار الحصن الأول، بدأت المجاعة تدق أبواب جيش المسلمين. فكيف سيواجهون بقية الحصون المنيعة وهم يعانون من نقص الطعام؟ وكيف ستختبر هذه الظروف القاسية إيمانهم وثباتهم؟

2. حصون خيبر: تكتيكات الحصار والمؤونة الشحيحة
تقسيمات حصون خيبر
كانت حصون خيبر مقسمة إلى قسمين رئيسيين، وكل قسم يحتوي على عدة حصون فرعية.
القسم الأول في المقدمة كان يضم خمسة حصون، وهو بدوره ينقسم إلى شقين:
- وادي النطاة: ويضم ثلاثة حصون هي:
- حصن ناعم (الذي تم فتحه).
- حصن الصعب بن معاذ.
- قلعة الزبير.
- منطقة الشِّق: وهي منطقة مرتفعة أكثر من وادي النطاة، وتضم حصنين:
- حصن أُبيّ.
- حصن نزار.
أما القسم الثاني (الشق الثاني) من خيبر، فكان يضم ثلاثة حصون أكبر وأشد منعة، وهي:
- حصن القَموص.
- حصن الوَطيح.
- حصن السَّلالم.
هذه الحصون الثمانية كانت تشكل خطوط دفاع اليهود في خيبر، وكان على المسلمين فتحها واحدًا تلو الآخر.
حصن ناعم: جدار منيع بلا مؤونة
رغم أن المسلمين استغرقوا نصف شهر لفتح حصن ناعم، إلا أن الصدمة كانت كبيرة عندما دخلوا الحصن ولم يجدوا بداخله أي مؤونة تذكر. لقد كان مجرد جدار منيع، خط دفاع أول استنزف جزءًا كبيرًا من وقت المسلمين ومؤونتهم دون أن يقدم لهم أي غنائم تعينهم على مواصلة الحصار. هذا الأمر زاد من صعوبة الموقف، فالجيش كان يعتمد على ما سيغنمه من خيبر ليستمر في حملته.

3. المجاعة القاسية واختبارات الإيمان
مع طول الحصار ونفاد المؤن، دخل المسلمون في مجاعة شديدة. لقد كانوا يعتمدون على ما سيجدونه في حصون خيبر، ولكن الحصن الأول خيّب آمالهم من هذه الناحية. أصبح الجوع والعطش رفيقين دائمين للجيش، وبدأت معنويات البعض تتأثر. وفي خضم هذه المحنة الجسدية، واجه المسلمون اختبارات إيمانية عميقة.
الرجل الذي بشر بالنار
خلال القتال الشرس لفتح حصن ناعم، برز رجل من المسلمين يقاتل بشجاعة منقطعة النظير، لا يترك شاذة ولا فاذة من الأعداء إلا ألحق بها الأذى. أعجب الصحابة رضوان الله عليهم ببطولته، وبدأوا يتحدثون عن بأسه وشجاعته أمام النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن، فاجأهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إن هذا الرجل من أهل النار!
صُدم الصحابة، كيف يكون رجل يقاتل بهذه الشراسة في سبيل الله من أهل النار؟ هذا الأمر أحدث فتنة واختبارًا في قلوب البعض. وخلال المعركة، أُصيب هذا الرجل بجراح كثيرة وبليغة. وعندما اشتد عليه الألم، لم يصبر على جراحه، بل أخذ سهمًا من كنانته وانتحر به. عندها علم الصحابة صدق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب في الناس قائلاً: “الله أكبر، أشهد بأني عبد الله ورسوله“، ثم أمر بلالاً أن ينادي في الناس: “إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر“. (رواه البخاري ومسلم).
كان هذا درسًا عظيمًا للمسلمين بأن الأعمال بخواتيمها، وأن الله قد يسخر من ليس على خير لنصرة دينه، وأن الإخلاص والنية الصادقة هي أساس القبول عند الله.
تحريم لحوم الحمر الأهلية ووعد إلهي
بعد فتح حصن ناعم، انتقل اليهود إلى حصن الصعب بن معاذ. استمر المسلمون في حصارهم، والجوع يزداد عليهم يومًا بعد يوم. في إحدى الليالي، وبينما كان المسلمون في خيامهم يتضورون جوعًا ويدعون الله بالفرج، رأوا مجموعة من الحمر الأهلية (التي يربيها الناس للركوب وحمل الأمتعة) تتجول. من شدة الجوع، قام بعض المسلمين باصطياد هذه الحمر وذبحها ووضع لحومها في القدور لطهيها.
انتشرت رائحة اللحم المطبوخ في المعسكر، ووصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فعلم أنهم يطبخون لحوم الحمر الأهلية. فأمر مناديًا أن ينادي في الجيش: “إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية (أو الإنسية)، فإنها رجس (أو نجس)“.
يا له من اختبار! الصحابة يموتون جوعًا، والطعام أمامهم يطبخ، ويأتيهم الأمر الإلهي بالتحريم. فما كان منهم إلا السمع والطاعة الفورية. قاموا بإفراغ القدور وكسر بعضها، ومن كان قد أكل منها حاول أن يستفرغ ما في بطنه. لقد ضربوا أروع الأمثلة في الطاعة والتسليم لأمر الله ورسوله، حتى في أحلك الظروف.
عندها، واساهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن الله سيأتيكم برزق هو أحل من ذا، وأطيب من ذا“. فاستبشر الصحابة خيرًا، وعلموا أن الفرج قريب.
4. الفرج يأتي: أحداث غيرت مجرى المعركة
قصة الراعي الأسود وشهادة بلا صلاة
وبالفعل، لم يتأخر الفرج. فبينما كان المسلمون يحاصرون حصن الصعب، خرج رجل أسود من الحصن ومعه غنم يرعاها. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه. ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الغنم التي معه، فهي أمانة لسيده اليهودي. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها إلى سيدها، فأخذ الراعي كفًا من الحصى ورماه في وجوه الغنم فعادت إلى الحصن. ثم تقدم هذا الرجل ليقاتل مع المسلمين، فاستشهد في المعركة. فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه دخل الجنة ولم يصلِّ لله ركعة واحدة، في إشارة إلى صدق إيمانه وإخلاصه.
خيانة غزال وسقوط حصن الزبير
بعد حصن الصعب، انتقل المسلمون إلى حصن قلعة الزبير. وكان هذا الحصن منيعًا جدًا. وفي ليلة من ليالي الحصار، خرج رجل من يهود خيبر يدعى “غزال” متسللاً، وطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم على أن يدله على طريقة لفتح الحصن. فأمّنه النبي صلى الله عليه وسلم.
أخبر غزال النبي صلى الله عليه وسلم بأن أهل الحصن يشربون من جداول ماء تحت الأرض (عيون ماء سرية). فإذا قطع المسلمون عنهم هذه المياه، فإنهم سيستسلمون من شدة العطش.
وبالفعل، قاد غزال مجموعة من الصحابة إلى مصدر هذه الجداول، فقاموا بقطع الماء عن الحصن. وما هي إلا أيام قليلة حتى خرج أهل الحصن مستسلمين يطلبون الأمان.
غنائم حصن الصعب وحصن الزبير: المنجنيق
كان حصن الصعب بن معاذ من أكثر حصون خيبر طعامًا وودكًا (شحومًا). وعندما فتحه المسلمون، وجدوا فيه كميات كبيرة من التمر والشعير والسمن والعسل، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وتحققت بشرى النبي صلى الله عليه وسلم بالرزق الأطيب والأحل.
أما في حصن الزبير، فقد وجد المسلمون بالإضافة إلى المؤن، كميات من الأسلحة والأدوات الحربية، وكان من بينها المنجنيق، وهي آلة ضخمة تستخدم لقذف الحجارة الكبيرة على أسوار الحصون. لم يكن المسلمون قد استخدموا المنجنيق من قبل في حروبهم.
5. سقوط الحصون المتبقية واستسلام خيبر
حصن أُبيّ وحصن نزار
بعد سقوط قلعة الزبير، انسحب مقاتلو اليهود إلى حصون منطقة الشِّق، وهي حصن أُبيّ وحصن نزار. نصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق أمام حصن أُبيّ، وبدأ بقصفه. لم يعهد اليهود هذا النوع من الأسلحة، فأصابهم الرعب الشديد. ومع القصف المستمر، تصدع جدار الحصن، فدخل المسلمون وفتحوه.
ثم هرب من تبقى من اليهود إلى حصن نزار، آخر حصون الشطر الأول من خيبر. فحاصرهم المسلمون بشدة، واستخدموا المنجنيق مرة أخرى، فانهار الحصن ودخله المسلمون.
الصلح وشروطه
بهذا، لم يبقَ أمام اليهود إلا حصون الشطر الثاني والأخير من خيبر، وهي حصون القموص والوطيح والسلالم. هذه الحصون كانت هي الأقوى والأمنع، وفيها قادتهم وأموالهم وذخائرهم. أدرك اليهود أن لا قبل لهم بمواجهة المسلمين، خاصة بعد سقوط حصونهم الأولى بهذه السرعة، ورؤيتهم لأسلحة جديدة كالمنجنيق.
فطلبوا الصلح من النبي صلى الله عليه وسلم. نزل كبيرهم، ابن أبي الحقيق، وتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم على الشروط التالية:
- أن يُحقن دماء المقاتلين من أهل خيبر الموجودين في الحصون.
- أن يتركوا لأهل خيبر أولادهم ونساءهم.
- أن يخرج أهل خيبر من أرضهم وديارهم.
- أن تكون أموال خيبر وأراضيها وسلاحها غنيمة للمسلمين.
- اشترط النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ألا يكتموا عنه شيئًا من كنوزهم وأموالهم، فإن فعلوا، برئت منهم ذمة الله ورسوله.
وافق اليهود على هذه الشروط. ثم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في خيبر ليعملوا في أراضيها ومزارعها، فهم أعلم بها من المسلمين، على أن يكون للمسلمين نصف ما يخرج منها من ثمار وزروع. فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وبهذا الصلح، تم فتح خيبر بالكامل، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وتحقق وعد الله لنبيه وللمؤمنين.
6. ما بعد الفتح: وصية النبي صلى الله عليه وسلم
بقي يهود خيبر يعملون في مزارعهم وفقًا لشروط الصلح. ولكن، قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أوصى بوصية عظيمة، وهي إخراج كل من ليس على دين الإسلام من جزيرة العرب. وفي الحديث الذي رواه أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه: “إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب” (حديث صحيح).
وقد نفذ هذه الوصية الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأجلى يهود خيبر وغيرهم من غير المسلمين من جزيرة العرب.
7. خاتمة: دروس وعبر من غزوة خيبر
تعتبر غزوة خيبر من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام. لقد أظهرت هذه الغزوة قوة إيمان الصحابة وصبرهم على الشدائد، وطاعتهم المطلقة لله ورسوله حتى في أوقات الجوع والعطش. كما أظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة المعارك وقبول الصلح عندما يكون فيه مصلحة للمسلمين.
إن الابتلاءات التي مر بها المسلمون في خيبر، من مجاعة واختبارات إيمانية، لم تزدهم إلا ثباتًا وقوة. ووعد الله لهم بالرزق والفتح قد تحقق، ليكون ذلك دليلاً على أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.
8. المصادر وروابط خارجية
- السيرة النبوية لابن هشام.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- صحيح البخاري وصحيح مسلم.
- لمشاهدة القصة مصورة بأسلوب شيق، يمكنكم الرجوع إلى فيديو “غزوة خيبر ٢ – كيف خرج المسلمون من المجاعة العظيمة؟” على قناة أنس آكشن على يوتيوب.