السياسة

عيد الشغل في تونس: نضال مستمر من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية

عيد الشغل في تونس: نضال مستمر من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية

مقدمة

يُمثل الأول من مايو/أيار من كل عام، المعروف عالميًا بـ”عيد العمال” أو “عيد الشغل”، مناسبة ذات رمزية عميقة وأهمية بالغة في تونس. إنه ليس مجرد يوم عطلة رسمية، بل هو محطة سنوية لتكريم نضالات الطبقة العاملة التونسية، واستذكار تضحياتها عبر التاريخ، وتجديد المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز قيم العدالة والمساواة في عالم الشغل. يرتبط هذا اليوم ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الحركة النقابية التونسية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT)، الذي لعب ولا يزال يلعب دورًا محوريًا في الدفاع عن حقوق العمال وصياغة المشهد الاجتماعي والسياسي في البلاد.

تستكشف هذه المقالة الأبعاد المختلفة لعيد الشغل في تونس، بدءًا من جذوره التاريخية العالمية وتجلياته المحلية، مرورًا بأهميته الرمزية والعملية، وطقوس الاحتفال به، وصولًا إلى التحديات المعاصرة التي تواجه العمال والنقابات في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها البلاد.


جدول المحتويات


الأصول التاريخية لعيد الشغل عالميًا

تعود جذور الاحتفال بعيد الشغل العالمي إلى أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى النضالات العمالية في الولايات المتحدة الأمريكية للمطالبة بتحديد ساعات العمل بثماني ساعات يوميًا. تُعتبر أحداث “هايماركت” في شيكاغو عام 1886 نقطة مفصلية، حيث أدت إضرابات ومظاهرات عمالية إلى مواجهات دامية وقمع شديد. وفي عام 1889، قرر المؤتمر الأول للأممية الاشتراكية الثانية (Second International) في باريس، تخليدًا لذكرى ضحايا هايماركت ودعمًا لمطالب العمال، تخصيص الأول من مايو/أيار من كل عام يومًا عالميًا للتظاهر للمطالبة بحقوق العمال، وعلى رأسها تحديد يوم العمل بثماني ساعات. ومنذ ذلك الحين، أصبح الأول من مايو رمزًا لوحدة الطبقة العاملة ونضالها من أجل ظروف عمل أفضل وحقوق أوسع.

عيد الشغل في تونس: النشأة والتطور

لم تكن تونس بمعزل عن هذه التحركات العمالية العالمية، خاصة مع خضوعها للاستعمار الفرنسي الذي شهد بدوره تطور الحركة العمالية.

البدايات الأولى تحت الاستعمار

ظهرت أولى بوادر الوعي النقابي في تونس في أوائل القرن العشرين، متأثرة بالحركات العمالية في فرنسا وأوروبا. وشهدت البلاد إضرابات وتحركات عمالية متفرقة في قطاعات مثل المناجم والنقل والموانئ. وكان من أبرز المحاولات المبكرة لتأسيس تنظيم نقابي تونسي مستقل، تأسيس “جامعة عموم العملة التونسية” (CGTT) الأولى على يد الرائد النقابي محمد علي الحامي عام 1924، والتي واجهت قمعًا شديدًا من سلطات الاستعمار. رغم قصر عمر هذه التجربة، إلا أنها أرست الأساس للعمل النقابي الوطني المستقل.

دور الاتحاد العام التونسي للشغل

شكل تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT) في 20 يناير 1946، بقيادة الزعيم الوطني والنقابي فرحات حشاد، منعطفًا حاسمًا في تاريخ الحركة العمالية والوطنية في تونس. لم يقتصر دور الاتحاد على الدفاع عن المطالب المهنية للعمال، بل انخرط بقوة في النضال من أجل الاستقلال الوطني، مما أكسبه شرعية ومكانة مركزية في المجتمع التونسي. أصبح الاحتفال بعيد الشغل، تحت راية الاتحاد، مناسبة لتأكيد المطالب العمالية والوطنية معًا. واغتيل فرحات حشاد على يد منظمة “اليد الحمراء” الاستعمارية في ديسمبر 1952، ليصبح رمزًا للتضحية من أجل الوطن وحقوق العمال.

محطات نضالية بارزة

شهد تاريخ تونس المستقلة محطات بارزة ارتبط فيها عيد الشغل بنضالات اجتماعية وسياسية كبرى. ففي ظل حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، تراوحت العلاقة بين الدولة والاتحاد بين التعاون والتوتر. وشكلت أحداث “الخميس الأسود” في 26 يناير 1978، التي شهدت إضرابًا عامًا ومواجهات دامية بين النقابيين وقوات الأمن، علامة فارقة في تاريخ الصراع الاجتماعي والسياسي، وظلت ذكراها حاضرة في احتفالات عيد الشغل اللاحقة كدليل على صعوبة المسار النضالي.

بعد ثورة 14 يناير 2011، اكتسب عيد الشغل زخمًا جديدًا، حيث تعزز دور الاتحاد العام التونسي للشغل كقوة رئيسية في المشهد السياسي والاجتماعي، ووسيط أساسي في الحوار الوطني، ومتحدث باسم شريحة واسعة من المجتمع تطالب بالعدالة الاجتماعية والكرامة. أصبحت مسيرات الأول من مايو مناسبة للتعبير عن المطالب المباشرة للعمال، وكذلك عن المواقف السياسية تجاه القضايا الوطنية الكبرى.

أهمية عيد الشغل في السياق التونسي

تتجلى أهمية عيد الشغل في تونس على عدة مستويات:

رمزية النضال والكرامة

يمثل الأول من مايو رمزًا قويًا لنضال العمال من أجل حقوقهم الأساسية: الحق في العمل اللائق، والأجر العادل، وظروف العمل الآمنة والصحية، والحماية الاجتماعية، والحرية النقابية. إنه يوم لتأكيد كرامة العامل ودوره الأساسي في بناء المجتمع والاقتصاد.

منصة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية

يعتبر عيد الشغل منصة سنوية رئيسية لطرح ومتابعة المطالب العمالية الملحة. تركز الخطابات والمسيرات في هذا اليوم على قضايا مثل:

  • مراجعة الأجور وتحسين القدرة الشرائية في مواجهة التضخم.
  • مكافحة البطالة وإيجاد حلول لتشغيل الشباب.
  • تحسين ظروف العمل ومقاومة العمل الهش.
  • توسيع قاعدة الحماية الاجتماعية لتشمل الفئات غير المغطاة.
  • الدفاع عن القطاع العام والمؤسسات العمومية.
  • تطبيق الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة والنقابات.

مرآة للعلاقة بين الدولة والنقابات

يعكس الاحتفال بعيد الشغل طبيعة العلاقة بين السلطة السياسية والحركة النقابية، وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل. يمكن أن تكون الأجواء مشحونة بالتوتر والمطالب الحادة في فترات الأزمات أو الخلافات حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أو قد تحمل طابعًا أكثر هدوءًا وتأكيدًا على الحوار في فترات أخرى. وغالبًا ما تكون خطابات الأمين العام للاتحاد ورئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية في هذا اليوم مؤشرًا هامًا على توجهات كل طرف.

مظاهر الاحتفال بعيد الشغل في تونس

يحتفل التونسيون بعيد الشغل بطرق متعددة، تجمع بين الطابع الرسمي والشعبي والنقابي:

التجمعات والمسيرات النقابية

ينظم الاتحاد العام التونسي للشغل عادةً تجمعًا عماليًا حاشدًا في مقره المركزي بساحة محمد علي الحامي في العاصمة تونس، تليه مسيرة تجوب الشارع الرئيسي الحبيب بورقيبة. كما تُنظم تجمعات ومسيرات مماثلة في مقرات الاتحادات الجهوية للشغل في مختلف ولايات الجمهورية، وخاصة في المدن ذات الكثافة العمالية مثل صفاقس، سوسة، قفصة، وقابس. يرفع المشاركون في هذه المسيرات لافتات تحمل شعارات نقابية ومطالب اجتماعية واقتصادية.

الخطابات الرسمية والنقابية

يلقي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل خطابًا هامًا في التجمع المركزي، يستعرض فيه الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ويحدد مواقف الاتحاد من القضايا المطروحة، ويجدد المطالب العمالية. كما يوجه رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة عادةً خطابًا أو بيانًا للأمة بهذه المناسبة، يتضمن تهنئة للعمال وتأكيدًا على التزام الدولة بتحسين أوضاعهم، وقد يتضمن إعلانات عن إجراءات اجتماعية جديدة.

التغطية الإعلامية والنقاش العام

يحظى عيد الشغل بتغطية إعلامية واسعة في تونس. تخصص وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة مساحات هامة لنقل وقائع الاحتفالات، وتحليل الخطابات، وإجراء حوارات مع المسؤولين النقابيين والخبراء حول قضايا الشغل والحقوق الاجتماعية والاقتصادية. يتحول اليوم إلى مناسبة لإثارة نقاش عام حول واقع العمال والتحديات التي يواجهونها.

الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT): القلب النابض للحركة العمالية

لا يمكن الحديث عن عيد الشغل في تونس دون إبراز الدور المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يُعد أكبر وأقدم منظمة نقابية في البلاد وأحد أبرز الفاعلين في المشهد الوطني.

تاريخ ودور محوري

منذ تأسيسه، ارتبط تاريخ الاتحاد بتاريخ تونس الحديث. فبالإضافة إلى دوره في النضال الوطني، لعب الاتحاد دورًا رئيسيًا في بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وفي صياغة السياسات الاجتماعية والاقتصادية، والدفاع عن حقوق العمال من خلال المفاوضات الجماعية والإضرابات والتحركات الاحتجاجية. يمتلك الاتحاد هيكلة تنظيمية قوية تمتد عبر مختلف القطاعات المهنية والمناطق الجغرافية، مما يمنحه قدرة كبيرة على التعبئة والتأثير.

التأثير السياسي والاجتماعي

تجاوز دور الاتحاد مجرد الدفاع عن المصالح المادية للعمال ليصبح قوة سياسية واجتماعية لا يمكن تجاوزها. وقد برز هذا الدور بشكل خاص بعد ثورة 2011، حيث لعب الاتحاد دورًا حاسمًا في إدارة المرحلة الانتقالية من خلال مشاركته الفاعلة في الحوار الوطني الذي توج بمنحه، ضمن الرباعي الراعي للحوار الوطني، جائزة نوبل للسلام لعام 2015. ورغم الانتقادات التي توجه له أحيانًا بالتدخل المفرط في السياسة أو بتعطيل الإصلاحات الاقتصادية، يظل الاتحاد لاعبًا رئيسيًا في المعادلة التونسية، وصوتًا قويًا للمطالبين بالعدالة الاجتماعية. وتُعد احتفالات عيد الشغل السنوية تأكيدًا على هذه المكانة وهذا الدور.

التحديات المعاصرة التي تواجه العمال والنقابات في تونس

يأتي الاحتفال بعيد الشغل في تونس في السنوات الأخيرة في ظل سياق محلي ودولي معقد، يفرض تحديات كبيرة على العمال والنقابات:

الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها

تعاني تونس من أزمة اقتصادية هيكلية تفاقمت بفعل عوامل داخلية وخارجية (مثل تداعيات جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا). وتتجلى هذه الأزمة في ارتفاع معدلات التضخم، وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع المديونية العمومية، وصعوبة تمويل الميزانية. يضع هذا الوضع ضغوطًا كبيرة على العمال، وخاصة ذوي الدخل المحدود، ويجعل مفاوضات زيادة الأجور أكثر صعوبة وتعقيدًا.

البطالة والعمل الهش

لا تزال البطالة، وخاصة بين الشباب وحاملي الشهادات العليا، تمثل تحديًا اجتماعيًا كبيرًا. كما يتزايد انتشار أنماط العمل الهش وغير المنظم، التي تفتقر إلى أبسط الحقوق والضمانات الاجتماعية (مثل العمل المؤقت، والعمل بالعقود المحددة المدة، والعمل في القطاع غير الرسمي). ويشكل الدفاع عن الحق في عمل لائق ومستقر ومقاومة الهشاشة أحد أبرز أولويات الحركة النقابية.

الحوار الاجتماعي والتفاوض الجماعي

يُعتبر الحوار الاجتماعي بين الحكومة والنقابات وأصحاب العمل (يمثلهم أساسًا الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية – UTICA) ركيزة أساسية لتحقيق السلم الاجتماعي والتنمية المستدامة. إلا أن هذا الحوار يشهد فترات من التعثر والتوتر، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية. يمثل عيد الشغل فرصة للدعوة إلى تفعيل آليات الحوار الاجتماعي وإنجاح المفاوضات الجماعية القطاعية والوطنية.

الحقوق والحريات النقابية

رغم أن الدستور التونسي والقوانين المحلية تضمن الحق في التنظم النقابي والإضراب، إلا أن الممارسة العملية قد تشهد أحيانًا ضغوطًا أو تضييقات على النشاط النقابي. وتؤكد النقابات في عيد الشغل على ضرورة احترام الحريات النقابية التي نصت عليها المواثيق الدولية، وخاصة اتفاقيات منظمة العمل الدولية (ILO) التي صادقت عليها تونس، باعتبارها شرطًا أساسيًا للدفاع عن حقوق العمال.

عيد الشغل كمنصة للمطالب والحوار الاجتماعي

في ظل هذه التحديات، يكتسب عيد الشغل أهمية مضاعفة كمنصة سنوية جامعة لطرح المطالب وتجديد الدعوة إلى الحوار. تستغل النقابات، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، هذه المناسبة لتوجيه رسائل قوية إلى الحكومة وأصحاب العمل والمجتمع ككل. لا تقتصر المطالب على الجوانب المادية (كالأجور)، بل تشمل أيضًا:

  • إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية: توسيع التغطية، تحسين الخدمات الصحية، ضمان معاشات لائقة.
  • تطبيق الاتفاقيات المبرمة: التأكيد على ضرورة التزام الحكومة بتنفيذ الاتفاقيات السابقة المتعلقة بالزيادات في الأجور وتسوية وضعيات مهنية معينة.
  • مراجعة التشريعات: الدعوة إلى مراجعة بعض القوانين المتعلقة بالعمل لضمان حماية أفضل للعمال، خاصة في القطاع الخاص والقطاعات الهشة.
  • الدفاع عن المؤسسات العمومية: رفض التوجهات نحو خوصصة المؤسسات العمومية التي يعتبرها الاتحاد ضمانة للسيادة الوطنية ولتقديم خدمات أساسية للمواطنين.
  • المشاركة في صنع القرار: التأكيد على ضرورة إشراك النقابات في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على حياة العمال.

يتحول الأول من مايو إلى يوم لتقييم مسار الحوار الاجتماعي خلال السنة المنقضية، وتحديد الأولويات للسنة القادمة، وتعبئة العمال حول هذه الأولويات.

الخاتمة

يبقى عيد الشغل في تونس أكثر من مجرد يوم احتفالي؛ إنه تجسيد حي لتاريخ طويل من النضال من أجل الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. هو يوم لاستحضار تضحيات الأجيال السابقة من النقابيين والعمال، ولتكريم جهود العاملين في مختلف القطاعات الذين يساهمون في بناء حاضر البلاد ومستقبلها. كما أنه وقفة سنوية ضرورية لتقييم واقع الشغل في تونس، وتسليط الضوء على التحديات المستمرة، وتجديد المطالب المشروعة للطبقة العاملة.

في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها تونس، يزداد عيد الشغل أهمية كمنصة للتعبير عن آمال العمال ومخاوفهم، وكرافعة للضغط من أجل سياسات أكثر عدالة وإنصافًا. ويظل الاتحاد العام التونسي للشغل الفاعل الرئيسي في تنظيم هذا اليوم وتوجيه رسائله، مؤكدًا على دوره كقوة اجتماعية لا غنى عنها في المشهد التونسي. إن الاحتفال بعيد الشغل هو تأكيد على أن النضال من أجل عالم عمل أفضل هو نضال مستمر، وأن حقوق العمال وكرامتهم تظل في صلب أي مشروع مجتمعي ديمقراطي وتنموي حقيقي.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى