الاستسلام، الإجلاء، والدروس الخالدة الجزء الثالث

إجلاء يهود بني النضير
الجزء الثالث: الاستسلام، الإجلاء، والدروس الخالدة
يأس بني النضير وتخاذل المنافقين
مع اشتداد وطأة الحصار الذي فرضه المسلمون على حصون بني النضير، وقطع نخيلهم الذي كان يمثل عصب حياتهم الاقتصادية، ومع مرور الأيام دون أن تصلهم أي نجدة أو دعم من حلفائهم المزعومين، بدأ اليأس يتسلل إلى قلوبهم المحصنة. كانت وعود عبد الله بن أُبيّ بن سلول والمنافقين بنصرتهم قد تبخرت كأن لم تكن. لقد أدرك بنو النضير أنهم وُعدوا بالسراب، وأن المنافقين لم يكونوا ليخاطروا بأنفسهم من أجلهم. قذف الله في قلوبهم الرعب، وهو جند من جنوده لا يُرى، فأصبحوا يرون الهلاك محدقًا بهم من كل جانب. لم يعد لديهم خيار سوى مواجهة مصيرهم. لقد خذلهم المنافقون، كما هي دائمًا عادة أهل النفاق، الذين يظهرون المودة في الرخاء ويتخلون عن حلفائهم في الشدة. هذا التخاذل كان درسًا قاسيًا لبني النضير، ولكل من يعتمد على وعود كاذبة من أعداء الحق في الظاهر والباطن. لقد أصبحوا معزولين، يواجهون قوة إيمانية لا تلين، مدعومة بتأييد إلهي واضح.
إسلام رجلين من بني النضير: يامين بن عمير وأبو سعيد بن وهب
في خضم هذه الأجواء المشحونة باليأس والترقب، وفيما كان مصير بني النضير يتجه نحو الإجلاء، أضاء نور الإيمان قلوب بعض أفرادهم. تذكر الروايات أن رجلين من بني النضير، هما يامين بن عُمَيْر بن كعب (وهو ابن عم عمرو بن جحاش الذي حاول إلقاء الصخرة على النبي صلى الله عليه وسلم)، وأبو سعيد بن وهب، قد أدركا حقيقة دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأنها الحق الذي لا مراء فيه. يُروى أنهما تحادثا فيما بينهما، واعترفا بأن الأوصاف التي يعرفونها عن النبي المنتظر في كتبهم تنطبق تمامًا على محمد صلى الله عليه وسلم. فتساءلا: “والله إنك لتعلم إنه لرسول الله، فما ننتظر بالإسلام؟ أفنؤمّن على دمائنا وأموالنا؟”. كان هذا حوارًا داخليًا عميقًا قادهما إلى اتخاذ قرار مصيري. فنزلا من حصونهما في الليل، وتوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلنا إسلامهما. وبإسلامهما هذا، أحرزا دماءهما وأموالهما وأهاليهما، فلم يشملهما حكم الإجلاء العام الذي صدر بحق باقي القبيلة. كان إسلام هذين الرجلين بمثابة بصيص أمل، ودليل على أن الحق يمكن أن يصل إلى القلوب حتى في أصعب الظروف، وأن باب التوبة والهداية مفتوح لمن أراد.
مفاوضات الاستسلام وشروطه
بعد أن طال الحصار، وقُذف الرعب في قلوبهم، وفقدوا الأمل في أي نجدة من المنافقين أو حلفائهم، أدرك بنو النضير أن لا مفر لهم من الاستسلام. أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الصلح على أن يجليهم عن المدينة، ويأخذوا معهم ما تستطيع الإبل حمله من أمتعتهم وأموالهم، باستثناء السلاح (الحلقة، أي الدروع والأسلحة). كان هذا العرض هو نفس العرض الذي رفضوه في البداية عندما أغراهم عبد الله بن أبي بالصمود والمقاومة. في البداية، قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم ذلك فورًا، لأنه كان قد عرض عليهم الخروج الآمن بشروط معينة فرفضوا. لكن، وبعد إلحاح منهم وإظهارهم لليأس التام، وافق النبي صلى الله عليه وسلم على إجلائهم بالشروط التي طلبوها هم: أن يخرجوا من المدينة بأنفسهم ونسائهم وذراريهم، وأن يحمل كل ثلاثة منهم على بعير واحد ما شاءوا من متاعهم وأموالهم، ما عدا السلاح الذي يجب أن يتركوه وراءهم. كان هذا القرار يعكس رحمة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مع أعدائه، حيث أتاح لهم فرصة الخروج ببعض ممتلكاتهم بدلًا من مصادرتها بالكامل أو قتلهم بعد نقضهم للعهد ومحاولة الغدر.
“يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ”: مشهد الرحيل
عندما صدر الأمر بالإجلاء ووافق النبي صلى الله عليه وسلم على الشروط، بدأ بنو النضير في الاستعداد لمغادرة ديارهم التي عاشوا فيها أجيالاً. لكن مشاعر الحقد والحسد والغيظ التي كانت تملأ قلوبهم دفعتهم إلى سلوك غريب يعكس مدى يأسهم ومرارتهم. فبدلاً من ترك بيوتهم كما هي، قاموا بتخريبها بأيديهم قبل الرحيل. كانوا يهدمون البيوت من الداخل، ويقتلعون الأبواب والشبابيك والأخشاب وكل ما يمكنهم حمله أو ما لا يريدون أن يستفيد منه المسلمون بعدهم. وصل بهم الأمر إلى حد أنهم كانوا يضعون وتدًا في أحد جدران البيت ثم يربطون به جملًا ويثيرونه ليهدم الجدار! والمفارقة العجيبة أن المسلمين، بدلًا من منعهم، كانوا أحيانًا يساعدونهم في هدم بعض أجزاء البيوت من الخارج، ليسهلوا مرور قوافلهم المحملة بالأمتعة، أو ربما ليُظهروا لهم أنهم مستغنون عن هذه البيوت ولا يطمعون فيها لذاتها. هذا المشهد الفريد من نوعه، حيث يقوم أصحاب البيوت بتخريبها بأيديهم وبمساعدة “عدوهم” الظاهري، هو ما صوره القرآن الكريم بدقة بالغة في سورة الحشر بقوله تعالى: “يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ” (الحشر: 2). كانت هذه دعوة للاعتبار من هذا المشهد الذي يجسد عاقبة الغدر والخيانة، وكيف أن الإنسان قد يدمر ما بناه بيده نتيجة لقراراته الخاطئة وعناده.
مصير بني النضير بعد الإجلاء
خرج بنو النضير من المدينة في موكب استعراضي، حاولوا من خلاله إظهار بعض مظاهر العزة والثراء رغم الهزيمة. حملوا معهم نساءهم وأطفالهم وما استطاعوا من نفائس أموالهم وأمتعتهم، حتى أنهم كانوا يضربون بالدفوف والمزامير ويعزفون، كأنهم في رحلة نصر وليس طردًا وهزيمة. كان هذا السلوك يعكس محاولة يائسة لإخفاء مرارة الخروج والذل الذي لحق بهم. اتجه معظم بني النضير، وعلى رأسهم زعيمهم حيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، إلى خيبر، وهي واحة يهودية كبيرة وقوية تقع شمال المدينة المنورة، حيث كان لهم أقارب وأملاك وحصون أخرى. أصبحت خيبر بعد ذلك مركزًا جديدًا للتآمر على المسلمين. بينما اتجه قسم آخر منهم إلى أذرعات في بلاد الشام. أما الأموال والأراضي والنخيل والديار التي تركوها وراءهم في المدينة، فقد أصبحت فيئًا (غنائم أخذت بدون قتال مباشر) للمسلمين. قام النبي صلى الله عليه وسلم بتوزيع جزء كبير من هذا الفيء على المهاجرين الفقراء الذين كانوا قد تركوا ديارهم وأموالهم في مكة وهاجروا إلى المدينة، لكي يستغنوا بها عن مساعدة الأنصار ويخففوا العبء عن إخوانهم. كما أعطى منها لبعض فقراء الأنصار. كان هذا التوزيع يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتلبية احتياجات الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع المسلم.
الدروس والعبر من غزوة بني النضير
تزخر غزوة بني النضير، كغيرها من أحداث السيرة النبوية المطهرة، بالعديد من الدروس والعبر التي تتجاوز زمانها ومكانها لتصبح نبراسًا يضيء طريق المسلمين في كل عصر.
- عاقبة الغدر والخيانة: تُعد هذه الغزوة مثالًا صارخًا على أن الغدر ونقض العهود لا يأتيان بخير على أصحابهما. بنو النضير، الذين كانوا يعيشون في أمان بموجب “صحيفة المدينة”، اختاروا طريق الخيانة والتآمر، فكانت عاقبتهم الإجلاء والشتات وفقدان ديارهم وأموالهم. وهذا درس لكل من تسول له نفسه نقض المواثيق.
- نصر الله لرسوله والمؤمنين: أظهرت الأحداث كيف أن الله تعالى يتولى عباده المؤمنين وينصرهم على أعدائهم. فإخبار جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بمؤامرة الاغتيال، وقذف الرعب في قلوب بني النضير، وتيسير أمور الحصار والاستسلام، كلها صور من صور النصر الإلهي الذي لا يُغلب.
- أهمية الوفاء بالعهود: أكد النبي صلى الله عليه وسلم من خلال تعامله مع بني النضير على قدسية العهود والمواثيق في الإسلام. فلم يبدأهم بقتال إلا بعد أن ثبت نقضهم للعهد ومحاولتهم الغدر. وحتى بعد ذلك، منحهم مهلة للخروج، ثم قبل بشروطهم التي تضمن سلامتهم وخروجهم ببعض ممتلكاتهم، مما يعكس سماحة الإسلام حتى في التعامل مع الأعداء.
- كشف المنافقين ودورهم الهدام: فضحت هذه الغزوة بشكل جلي حقيقة المنافقين ودورهم التخريبي في المجتمع المسلم. فعبد الله بن أُبيّ بن سلول وجماعته كانوا يحرضون بني النضير على العصيان ويعدونهم بالنصرة، ثم يتخلون عنهم في وقت الشدة، مما يدل على أن خطر المنافقين قد يكون أشد من خطر العدو الظاهر.
- التوكل على الله والأخذ بالأسباب: رغم تأييد الله تعالى للمسلمين، إلا أنهم لم يتوانوا عن الأخذ بالأسباب المتاحة، من فرض الحصار، والتخطيط العسكري، واستخدام التكتيكات المناسبة مثل قطع النخيل، وهذا يعلمنا أهمية الجمع بين التوكل على الله والعمل الجاد.
سورة الحشر ونزولها في بني النضير
تعتبر سورة الحشر، التي تُعرف أيضًا بسورة بني النضير، من السور المدنية التي نزلت بكاملها أو معظمها تتحدث عن أحداث هذه الغزوة الهامة. تقدم السورة وصفًا دقيقًا للأحداث، وتوضح الأسباب الحقيقية وراء إجلاء بني النضير، وتستخلص الدروس والعبر للمؤمنين. تبدأ السورة بتسبيح الله تعالى وبيان قدرته وعزته وحكمته، ثم تنتقل مباشرة إلى الحديث عن إخراج الذين كفروا من أهل الكتاب (بني النضير) من ديارهم:
خاتمة
تُعد غزوة إجلاء بني النضير حدثًا مفصليًا في السيرة النبوية العطرة، وعلامة بارزة في تاريخ تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة. لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت اختبارًا للعهود، وكشفًا للنوايا، وتأكيدًا على أن العاقبة للمتقين. لقد أظهر النبي صلى الله عليه وسلم حزمًا لا يلين أمام الغدر والخيانة، ورحمةً وسماحةً في التعامل مع المغلوبين ضمن حدود العدل والإنصاف. كما كشفت هذه الأحداث عن خطورة النفاق الداخلي ودوره في محاولة تقويض أركان المجتمع المسلم. إن الدروس المستفادة من هذه الغزوة تتجاوز سياقها التاريخي لتقدم لنا مبادئ خالدة في أهمية الوفاء بالعهود، وعاقبة نقضها، وضرورة اليقظة تجاه مؤامرات الأعداء، والثقة المطلقة في نصر الله للمؤمنين طالما هم متمسكون بدينهم وسائرون على هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم. تظل هذه القصة، بما فيها من أحداث ومواقف وآيات قرآنية، مصدر إلهام وتوجيه للمسلمين في كل زمان ومكان، تذكرهم بأن الحق والعدل والوفاء هي الأعمدة التي تقوم عليها الأمم القوية والمجتمعات المزدهرة.
المصادر والمراجع (روابط خارجية مقترحة):
- السيرة النبوية لابن هشام: للتعمق في تفاصيل السيرة بشكل عام، يمكن البحث عن نسخ رقمية أو مطبوعة من هذا الكتاب الكلاسيكي. (مثال: المكتبة الشاملة – سيرة ابن هشام)
- الرحيق المختوم للمباركفوري: كتاب حديث نسبيًا لكنه يعتبر من أفضل الملخصات الشاملة للسيرة النبوية. (مثال: الرحيق المختوم – موقع IslamHouse)
- تفسير القرآن الكريم (لسورة الحشر):
- تفسير ابن كثير: (مثال: جامعة الملك سعود – تفسير ابن كثير)
- تفسير الطبري: (مثال: جامعة الملك سعود – تفسير الطبري)
- كتاب المغازي للواقدي: مصدر تفصيلي لأحداث الغزوات النبوية. (مثال: المكتبة الشاملة – مغازي الواقدي)
- يمكن أيضًا البحث في قواعد البيانات الأكاديمية مثل Google Scholar عن دراسات وبحوث متخصصة حول غزوة بني النضير وعلاقات النبي صلى الله عليه وسلم بالقبائل اليهودية.
تعليق واحد