حصريًا ولأول مرة: كشف أسرار مواجهة جبريل وإبليس في معركة بدر الكبرى!

جدول المحتويات التفاعلي
- مقدمة: الفرقان وبزوغ فجر جديد
- جذور الصراع: من مكة إلى يثرب ومكر إبليس
- قافلة أبي سفيان: شرارة المواجهة
- التعبئة نحو بدر: إيمان قلة وغرور كثرة
- ليلة المعركة: دعاء ومشورة وسكينة إلهية
- يوم الفرقان: المبارزات وبداية الالتحام
- المواجهة الكبرى: جبريل ضد إبليس ونزول الملائكة
- النصر المبين وتداعياته
- خاتمة: بدر وأثرها الخالد
- روابط خارجية لمزيد من المعلومات
1. مقدمة: الفرقان وبزوغ فجر جديد
في سجل الخلود الإسلامي، تقف معركة بدر الكبرى شامخة، ليس فقط كحدث عسكري غيّر مجرى التاريخ، بل كآية ربانية سطعت بنورها لتميّز الحق من الباطل، ولذلك سُميت بيوم “الفرقان”. كانت معركةً فريدةً بكل المقاييس، قليلة في عدد المسلمين، عظيمة في إيمانهم، شهدت وقائع تتجاوز حدود الفهم البشري المادي. ومن أبرز ما يُميز هذه المعركة، كما تروي لنا الآثار، أنها كانت الساحة التي شهدت مواجهة مباشرة، وإن كانت غير متكافئة، بين قائد الملائكة جبريل عليه السلام، وبين رأس الشر، إبليس اللعين، الذي كان يراقب ويحرض، قبل أن يولّي الأدبار خزيًا.
كانت ليلة المعركة ليلةً مشحونة بالرهبة والأمل، حيث غشى النعاس المؤمنين كأمان من الله، ونزل المطر ليطهرهم ويثبت أقدامهم. وفي صبيحتها، وقف النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، يتحدث إلى جثث صناديد قريش الذين لقوا مصارعهم، في مشهد جعل أجساد الصحابة تقشعر، إدراكًا منهم لحقيقة ما يجري وعمق الصلة بين عالم الغيب والشهادة. إن قصة بدر ليست مجرد سرد تاريخي لأحداث مضت، بل هي مصدر إلهام وفخر، تذكّرنا بتضحيات جيل فريد صدق ما عاهد الله عليه، وتكشف عن حقائق إيمانية عميقة حول النصر والصبر والتوكل على الله. دعونا نغوص في تفاصيل هذه الملحمة الخالدة، التي لم تكن مجرد فيلم سينمائي، بل حقيقة وقعت، ورسمت ملامح مستقبل أمة بأكملها.
2. جذور الصراع: من مكة إلى يثرب ومكر إبليس
بدأت فصول القصة قبل الهجرة النبوية المباركة. ففي مكة، اشتد الأذى على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فصبروا وثبتوا. ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا تبشره بالهجرة إلى أرض ذات نخيل، فعرف أنها يثرب (المدينة المنورة لاحقًا). بدأ التخطيط السري للهجرة، وانتظار الإذن الإلهي. الفرصة سنحت مع قدوم وفد من أهل يثرب للحج. كان من بينهم ستة رجال من الخزرج، عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا، وعادوا إلى قومهم يحملون نور الهداية. في العام التالي، جاء وفد أكبر، ضم اثني عشر رجلًا من الأوس والخزرج، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى. انتشر الإسلام في يثرب كالنار في الهشيم، حتى لم يبقَ بيت إلا ودخله ذكر الله.
عندما حان الوقت المناسب، وأذن الله لنبيه بالهجرة، هنا تدخل إبليس بشكل سافر. تمثّل اللعين لقادة قريش في دار الندوة على هيئة شيخ نجدي جليل، واجتمعوا يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي بات خطره يتزايد عليهم بهجرة أتباعه. طرحت آراء متعددة، حتى أشار عليهم الشيخ النجدي (إبليس) برأي خبيث: أن يأخذوا من كل قبيلة شابًا فتيًا جلدًا، ثم يعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فيتفرق دمه في القبائل جميعًا، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فيرضون بالعقل (الدية). استحسن القوم هذا الرأي الشيطاني، وكان أبو جهل من أشد المتحمسين له. خططوا لتنفيذ الجريمة في ليلة محددة، لكن الله كان لهم بالمرصاد، فأخبر نبيه بمكرهم. أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه لتمويه المشركين، وخرج هو وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جنح الظلام، مهاجرين إلى يثرب. راجع قسم التعبئة نحو بدر لمزيد من التفاصيل حول رد فعل قريش.
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وتبعه صحابته الكرام، تاركين وراءهم كل ما يملكون من أموال وديار وبيوت في مكة، فداءً لعقيدتهم. هذه الأموال والممتلكات أصبحت في نظر قريش غنيمة سهلة.
3. قافلة أبي سفيان: شرارة المواجهة
بعد فشل قريش الذريع في قتل النبي صلى الله عليه وسلم وإيقاف دعوته بالهجرة، لم يكتفوا بذلك، بل قرروا الاستيلاء على أموال المهاجرين التي تركوها في مكة. جمعوا هذه الأموال، وجهزوا بها قافلة تجارية ضخمة متجهة إلى الشام، بقيادة أحد أبرز سادتهم ودهاتهم، أبي سفيان بن حرب. كان أبو سفيان، المعروف بحنكته وخبرته في التجارة وقيادة القوافل، يدرك قيمة هذه الأموال. ومن شدة ثقته بنفسه واستهانته بقوة المسلمين الناشئة في المدينة، خرج بالقافلة ومعه حوالي أربعين رجلاً فقط لحراستها، وهو عدد قليل جدًا بالنسبة لحجم وأهمية القافلة، لكنه كان يعتقد أن المسلمين أضعف من أن يشكلوا أي تهديد.
وصل خبر هذه القافلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. فكانت فرصة لاسترداد بعض الحقوق المسلوبة، ولإظهار أن للمسلمين قوة لا يستهان بها. ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج لاعتراض القافلة في طريق عودتها من الشام، لا بنية القتال ابتداءً، بل بهدف استعادة جزء من أموالهم. خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه حوالي مائتي رجل، وقصدوا مكانًا يُدعى “ذا العشير” لانتظار القافلة. لكنهم وصلوا متأخرين؛ كانت القافلة قد مرت من هناك قبل أيام. فعاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، دون أن يحققوا هدفهم في تلك المرة.
ولكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد. ففي السنة الثانية للهجرة، ومع اقتراب موعد عودة القافلة من الشام، كان النبي صلى الله عليه وسلم يترقب. أرسل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله عنهما كطليعة لاستكشاف أخبار القافلة. انطلقا حتى وصلا إلى منطقة “الحوراء” الساحلية، وهناك شاهدا قافلة أبي سفيان الضخمة وهي تستعد للعودة إلى مكة. ولكن أبا سفيان لم يكن غافلًا. كان قد زرع عيونه ومراقبيه على طول الطريق ليتتبع أي تحركات مشبوهة. فرجع طلحة وسعيد بسرعة إلى المدينة وأخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بأن القافلة قد تحركت بالفعل عائدة من الشام.
4. التعبئة نحو بدر: إيمان قلة وغرور كثرة
4.1. استعداد المسلمين المتواضع
عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبر عودة القافلة، حث أصحابه على الخروج إليها قائلًا: “هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها”. لم يكن الخروج إجباريًا، فالهدف المعلن كان اعتراض قافلة تجارية، وليس خوض معركة شاملة. لذلك، كان استعداد معظم الصحابة بسيطًا، لم يتجهزوا لقتال كبير. أخذوا ما تيسر لهم من سيوف وبعض الدروع الخفيفة. تجمع حوالي ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا (تختلف الروايات قليلًا في العدد الدقيق). ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود (وقيل مرثد بن أبي مرثد الغنوي). وكان معهم سبعون بعيرًا فقط، يتعاقبون على ركوبها، كل ثلاثة رجال على بعير واحد.
وفي هذا الموقف، تجلت أخلاق النبوة السامية وتواضع النبي صلى الله عليه وسلم العظيم. يروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان هو وأبو لبابة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم زملاء النبي صلى الله عليه وسلم في ركوب بعير واحد. فلما كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم (أي نوبته في المشي)، قالا له: “يا رسول الله، نحن نمشي عنك”. فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بتواضع جم: “ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما”. فمشى النبي صلى الله عليه وسلم كما يمشي أصحابه.
انطلق جيش المسلمين الصغير، وعسكروا في منطقة “بيوت السقيا” القريبة من المدينة. هناك، سمح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض صغار السن أو من كان لهم أعذار بالعودة، ومنهم البراء بن عازب وعبد الله بن عمرو، لصغر سنهما. ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه، هما بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهنيان، كطليعة لاستكشاف موقع القافلة بدقة، فاتجها نحو بدر.
وفي الطريق، لحق بالجيش رجل من المشركين، كان معروفًا بشجاعته ونجدته. عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل معه، فاستبشر الصحابة بذلك. لكن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: “أتؤمن بالله ورسوله؟” قال الرجل: “لا”. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “فارجع، فلن أستعين بمشرك”. حاول الرجل مرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة يسأله النبي نفس السؤال ويجيبه الرجل بالنفي، فيرده النبي. وفي المرة الثالثة، قال الرجل: “نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله”. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “فانطلق معنا”. وانضم الرجل إلى جيش المسلمين.
4.2. حنكة أبي سفيان واستنفار قريش
في هذه الأثناء، كان بسبس وعدي قد وصلا إلى بدر يترقبان. لمحا القافلة من بعيد، وأسرعا لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم. لكن أبا سفيان، الذي كان يقود القافلة بحذر شديد، شعر بأن هناك من يراقب. توقف بالقرب من بدر، ونزل بنفسه يتفقد المكان. لم يجد أحدًا، فسأل بعض أهل بدر إن كانوا رأوا أحدًا غريبًا. قالوا: “ما رأينا أحدًا ننكره، إلا راكبين أتيا هذا التل، فاستقيا في شن لهما ثم انطلقا”. ذهب أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما، فأخذ من بعرهما ففته، فإذا فيه النوى. فقال: “هذه والله علائف يثرب! إن عيون محمد علينا، وإنه ناوي على القافلة”. لقد استطاع أبو سفيان بذكائه الحاد أن يكتشف وجود مراقبة من المدينة من خلال نوع علف الإبل!
على الفور، اتخذ أبو سفيان قرارًا حاسمًا: غير طريق القافلة، وسلك بها طريق الساحل بعيدًا عن بدر، وأرسل في نفس الوقت رسولًا سريعًا إلى مكة، هو ضمضم بن عمرو الغفاري، ليستنفر قريشًا لنجدة القافلة. دخل ضمضم مكة بطريقة مثيرة ودرامية لإشعال الحمية في قلوب أهلها: جدع أنف بعيره (قطعه)، وحوّل رحله، وشق قميصه من قُبُل ومن دُبُر، وهو يصيح بأعلى صوته في بطون مكة: “يا معشر قريش، اللطيمةَ اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه، الغوثَ الغوث!”. كان أسلوبه في الاستنجاد مبالغًا فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد اعترض القافلة بعد، لكنه نجح تمامًا في هدفه.
ثارت ثائرة قريش، واشتعلت فيهم نار الغضب والحمية. كان أبو جهل، عمرو بن هشام، من أوائل من استجابوا لنداء ضمضم، وقال بغرور وكبر: “أيزعم محمد وأصحابه أن تكون لهم كعير ابن الحضرمي (إشارة إلى سرية عبد الله بن جحش)؟ كلا والله! لن يعلم إلا غير ذلك. هذا يومك يا محمد!”. جهزت قريش جيشًا جرارًا لم تشهد مكة مثله من قبل. خرجوا بنفِيرهم، ما يقارب الألف وثلاثمائة مقاتل، منهم ستمائة دارع (لابس للدرع)، ومعهم مائة فرس، ومئات الإبل، وأخذوا معهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين. كان عزمهم ألا يعودوا إلى مكة إلا بعد أن يستأصلوا شأفة المسلمين وينكلوا بهم.
فيما بعد، وبعد أن تأكد أبو سفيان من نجاة القافلة، أرسل إلى قريش وهم في طريقهم إلى بدر يخبرهم بنجاة العير ويطلب منهم العودة. فقال بعضهم بالرجوع، فما عاد هناك داعٍ للقتال. لكن أبا جهل، بكبريائه وغطرسته، رفض ذلك رفضًا قاطعًا، وقال كلمته المشهورة: “والله لا نرجع حتى نرد بدرًا – وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام – فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها. فامضوا!”. رغم معارضة بعض العقلاء مثل الأخنس بن شريق الذي رجع بقومه بني زهرة (وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل)، أصر الباقون، وعلى رأسهم أبو جهل، على المضي قدمًا. وهكذا، وصل جيش المشركين إلى بدر، وقد نقص عددهم إلى حوالي ألف مقاتل بعد انسحاب بني زهرة.
5. ليلة المعركة: دعاء ومشورة وسكينة إلهية
5.1. الوصول إلى بدر وكشف نوايا قريش
وصل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مشارف بدر. وهنا، بدأت الأخبار تتكشف بأن الأمر لم يعد مجرد قافلة، بل إن قريشًا قد خرجت بحدها وحديدها لملاقاتهم. شعر الصحابة بالتوتر والقلق، فالعدد قليل والعدة بسيطة جدًا مقارنة بجيش قريش المدجج بالسلاح والكبرياء. ومما زاد الطين بلة، كما ذكر الراوي في مقدمة الفيديو، أن بعض الصحابة أكلوا من ثمار كانت على طريقهم فأوجعتهم في بطونهم، مما أضاف إلى تعبهم وإرهاقهم.
عندما نزل المسلمون قريبًا من ماء بدر، أسروا غلامًا أسود من غلمان قريش كان يستقي لهم الماء. سأله الصحابة عن جيش قريش، فكان يجيب: “هم والله كثير، عددهم شديد، بأسهم شديد”. فظن بعض الصحابة أنه يسخر منهم أو يحاول تخويفهم، فضربوه. تدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله بلطف وحكمة: “كم ينحرون كل يوم من الإبل؟” (أي كم يذبحون من الإبل ليأكلوا). أجاب الغلام: “يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا”. فاستنبط النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الجواب عدد جيش المشركين بذكاء، وقال لأصحابه: “القوم ما بين التسعمائة والألف”. وبالفعل، كان هذا تقديرًا دقيقًا لعددهم بعد انفصال بني زهرة عنهم. كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يرعب أصحابه بالعدد الدقيق، لكنه أعطاهم تقديرًا ليكونوا على بينة.
5.2. مشورة الحباب بن المنذر
في هذه اللحظات الحرجة، وقبل أن يستقر جيش المسلمين في موقعه النهائي، برزت أهمية الشورى في الإسلام. قام الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وكان خبيرًا بمواقع المياه والمواضع الحربية، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟” قال النبي صلى الله عليه وسلم: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”. فقال الحباب: “يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم (أي أقرب بئر للمشركين) فننزله، ثم نغوّر (نردم) ما وراءه من القُلُب (الآبار)، ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون”. فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي الصائب وقال: “لقد أشرت بالرأي”. ونفذ المسلمون خطة الحباب، فسيطروا على مصادر المياه، مما كان له أثر كبير في إضعاف معنويات المشركين لاحقًا. راجع قسم المواجهة الكبرى لترى أثر ذلك.
5.3. البشارات النبوية والنعاس والماء المطهر
بعد أن استقر المسلمون في موقعهم، وفي ليلة المعركة التي كانت ليلة جمعة السابع عشر من رمضان، نزل مطر غزير فجأة، مصحوبًا بالبرق والرعد. لجأ الصحابة تحت شجرة، والخوف والقلق يسيطران على نفوس الكثيرين، فالغد يحمل لهم مواجهة غير متكافئة مع عدو يفوقهم عددًا وعدة. لكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف تحت المطر، رافعًا يديه إلى السماء، يدعو ربه بإلحاح وتضرع، حتى سقط رداؤه عن منكبيه. كان من دعائه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تُهلك هذه العصابة (الجماعة) من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض بعدها أبدًا”.
وفي هذه اللحظات العصيبة، شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه مرة أخرى ليطمئن إلى ثباتهم. فتكلم المهاجرون كلامًا طيبًا، ثم تكلم سعد بن معاذ سيد الأنصار، فقال كلامًا بليغًا أثلج صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ومما قاله: “يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله”. ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد وسُرّ به.
ثم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بمصارع قادة المشركين، فكان يشير إلى أماكن في أرض المعركة ويقول: “هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان”. قال عمر بن الخطاب لاحقًا: “فوالله ما أخطأ أحد منهم الموضع الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم”. فكانت هذه البشارات سببًا في تثبيت قلوب المؤمنين وزيادة يقينهم بنصر الله.
ومع حلول الليل، والجميع متيقظ يترقب مصيره، أنزل الله تعالى على المسلمين النعاس أمنة منه، كما قال تعالى: “إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ” (الأنفال: 11). فنام الصحابة نومًا هنيئًا، حتى إن بعضهم كان سيفه يسقط من يده وهو نائم، ومنهم من كان يحرس في الليل فكان رأسه يخفق من النعاس. وفي المقابل، كان المشركون في قلق وأرق.
أما المطر الذي نزل، فكان له أثر مزدوج. بالنسبة للمسلمين، كانت الأرض تحت أقدامهم رملية، فثبتها المطر وجعلها متماسكة سهلة السير عليها. وبالنسبة للمشركين، كانت أرضهم طينية سبخة، فجعلها المطر وحلًا زلقًا يعيق حركتهم. كما كان هذا الماء ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجز الشيطان (وساوسه وتخويفه)، وليربط على قلوبهم، ويثبت به الأقدام. فسبحان من جعل من الماء الواحد تثبيتًا للمؤمنين وعائقًا على الكافرين. استيقظ المسلمون في الصباح وقد تطهروا بالماء، وثبتت الأرض تحتهم، بينما كان المشركون يعانون من صعوبة الحركة في الطين.
6. يوم الفرقان: المبارزات وبداية الالتحام
6.1. إطلالة إبليس في صفوف المشركين
في صباح يوم الجمعة، السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، اصطف الجيشان للمواجهة. النبي صلى الله عليه وسلم صفّ أصحابه بنفسه، وحثهم على القتال، وجعل في الصف الأول الرماة المهرة، وأمرهم ألا يبدأوا القتال حتى يأمرهم. وفي الجهة المقابلة، كان جيش المشركين يفيض بالعدد والعدة، وبالكبر والغرور.
وفي صفوف المشركين، كان هناك حضور خفي وشيطاني. لقد تمثل إبليس اللعين – كما ذكر ابن كثير وغيره من المفسرين عند تفسير قوله تعالى: “وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ” (الأنفال: 48) – في هيئة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وهو من سادة بني كنانة وكانت قبيلته على وفاق مع قريش. كان إبليس في صورة سراقة يحرض المشركين على القتال ويشجعهم، ويقول لهم: “لا غالب لكم اليوم من الناس، أنتم القوة العظمى، هذا يومكم، وأنا جار لكم (أي حليف ومدافع عنكم)”. وكانوا يصدقونه، ويظنون أنه سراقة البشر، مما زاد من حماسهم الزائف وثقتهم المفرطة بالنصر.
6.2. مبارزات فردية تشعل الحماس
كان من عادة العرب قبل بدء المعارك الكبرى أن تخرج ثلة من أشجع فرسان كل طرف للمبارزة الفردية، كنوع من استعراض القوة وبث الحماس أو الرعب. خرج من صفوف المشركين ثلاثة من كبار قادتهم وأشجع فرسانهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابن عتبة وهو الوليد بن عتبة. وقفوا أمام جيش المسلمين ونادوا: “يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا (أي من قريش مثلنا)”. فبادر ثلاثة من شباب الأنصار للخروج إليهم، وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث (وأمهما عفراء)، وقيل الثالث عبد الله بن رواحة. فلما رآهم المشركون، سألوهم: “من أنتم؟” قالوا: “رهط من الأنصار”. فقالوا بكبرياء: “أكفاء كرام، ولكن ما لنا بكم من حاجة. إنما نريد بني عمنا”. ثم نادوا: “يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا”.
عندئذ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “قم يا حمزة بن عبد المطلب (عمه)، قم يا علي بن أبي طالب (ابن عمه)، قم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب (ابن عمه الأكبر سنًا)”. فقام هؤلاء الأبطال الثلاثة من آل البيت، وتقدموا لملاقاة صناديد قريش. فلما دنوا منهم، قال المشركون: “من أنتم؟ تكلموا حتى نعرفكم”. فقال حمزة: “أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله”. وقال علي: “أنا علي بن أبي طالب”. وقال عبيدة: “أنا عبيدة بن الحارث”. فقالوا: “نعم، عرفناكم، أكفاء كرام”. حتى وهم أعداء، اعترفوا بمكانتهم وشرف نسبهم، وهذا من بقايا أخلاق العرب الأصيلة التي لم يمحها كفرهم بالكامل، وهو ما أشار إليه الراوي في الفيديو مستغربًا من حال بعض شباب اليوم.
بدأت المبارزات النارية. بارز حمزة رضي الله عنه شيبة بن ربيعة، فلم يمهله حمزة طويلًا حتى أجهز عليه بسيفه، فسقط شيبة قتيلًا. وكبّر المسلمون فرحًا. وتقدم علي رضي الله عنه ليبارز الوليد بن عتبة، وكان الوليد فارسًا شابًا قويًا، ولكن عليًا كان أشد منه بأسًا، فدارت بينهما جولات سريعة، انتهت بأن شق علي رأس الوليد بسيفه، أو كما قال الراوي “خرج علي برأس الوليد في يده ورماه”، فسقط الوليد صريعًا. وكبر المسلمون مرة أخرى.
أما المبارزة الثالثة، فكانت بين عبيدة بن الحارث رضي الله عنه، وكان أسنّ الثلاثة، وبين عتبة بن ربيعة، وكان من أشد فرسان قريش وأكثرهم خبرة. اختلفا ضربتين، فضرب كل واحد منهما الآخر ضربة قوية. أصاب عتبة ساق عبيدة فقطعها، وأصاب عبيدة عتبة أيضًا. عندئذ، رأى حمزة وعلي ما حل بصاحبهما، فكرّا على عتبة وضرباه ضربة قاتلة، فقتلاه. ثم حملا عبيدة إلى صفوف المسلمين، وكانت ساقه تنزف دمًا غزيرًا. ظل عبيدة حيًا حتى انتهت المعركة، ثم توفي متأثرًا بجراحه في طريق العودة إلى المدينة، فكان من شهداء بدر.
كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يشاهد هذه المبارزات، وكان عن يمينه وشماله شابان صغيران من الأنصار، في حدود الرابعة عشرة من العمر. فلما رأى جراح عبيدة، شعر بشيء من الخوف والتفكير في قلة الناصر، وقال في نفسه: “يا الله، أي بلية أنا فيها لوحدي وما في أحد كفو جنبي”.
7. المواجهة الكبرى: جبريل ضد إبليس ونزول الملائكة
7.1. فرار إبليس عند رؤية جند الرحمن
بعد انتهاء المبارزات بهزيمة منكرة لممثلي قريش، اشتعل الغضب في صفوف المشركين، وبدأ الهجوم العام. في هذه اللحظات الحاسمة، رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء، وجأر إلى الله بالدعاء، يناشده النصر الذي وعده، وقال: “اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض بعدها”. وبالغ في الدعاء والتضرع حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأخذ رداءه وألقاه على منكبيه، والتزمه من ورائه وقال: “يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك”. عندها أنزل الله تعالى استجابته الفورية: “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ” (الأنفال: 9).
في تلك اللحظة المهيبة، وبينما كان إبليس اللعين في هيئة سراقة بن مالك يقف في صفوف المشركين يحرضهم ويدفعهم للقتال، رأى ما لم يره بنو البشر من المشركين. لقد رأى بأم عينيه نزول الملائكة، وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، مدججين بسلاح السماء، يتقدمون نحو جيش المسلمين. تجمد إبليس في مكانه، وتملكه الرعب والهلع. لم يعد “سراقة” الذي كان يشجعهم ويقول لهم “لا غالب لكم اليوم”، بل تحول إلى جبان يرتعد خوفًا. وهنا، كما قال تعالى: “فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (الأنفال: 48).
أراد إبليس أن يهرب، فمسك به الحارث بن هشام (أخو أبي جهل)، وهو يظنه سراقة، وقال له مستنكرًا: “إلى أين يا سراقة؟ أتخذلنا في هذه الحالة؟ ألم تكن قلت إنك جار لنا لا تفارقنا؟” فدفع إبليس في صدر الحارث، وقال له بصراحة تكشف عن هويته الحقيقية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: “إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون! إني أخاف الله، والله شديد العقاب!”. ثم ولى هاربًا، فانغمس في البحر (كما جاء في بعض الروايات)، تاركًا حلفاءه من المشركين لمصيرهم المحتوم. استغرب قادة قريش من هذا التحول المفاجئ في “سراقة” الذي كان قبل قليل يزأر كالأسد، ولم يفهموا سر خوفه وقوله “إني أرى ما لا ترون” و “إني أخاف الله”، إلا بعد فوات الأوان.
7.2. الملائكة تقاتل: مشاهد من النصر الإلهي
التحم الجيشان. هجم المشركون بكثرتهم وغرورهم على المسلمين القلائل، ولكن المسلمين ثبتوا كثبات الجبال الراسيات، ولم يتحركوا من صفوفهم. كان الطين الذي خلفه المطر يعيق حركة المشركين ويجعل تقدمهم صعبًا. وعندما اقتربوا من صفوف المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصف الأول من المسلمين بالنزول (ربما ليتخذوا وضع الاستعداد للرمي أو لتفادي هجمة أولى)، وبدأ الرماة في الصفوف الخلفية يمطرون المشركين بوابل من النبال، مما أحدث فيهم ارتباكًا وبلبلة في صفوفهم.
كانت طبيعة هجوم المشركين هي الكر والفر، يهجمون ثم يتراجعون ليعيدوا تنظيم صفوفهم ثم يهجمون مرة أخرى. في الهجمة الأولى والثانية، ثبت المسلمون وقاتلوا قتالًا مستميتًا. بدأ التعب والإرهاق يظهران على المشركين، فالعطش ينهكهم (بسبب سيطرة المسلمين على الماء)، والطين يعيق حركتهم، وقتال المسلمين الشرس يستنزف قواهم. وفي الهجمة الثالثة، كانوا قد بلغوا غاية التعب والإرهاق. وعندما تراجعوا من هجمتهم هذه، انتهز النبي صلى الله عليه وسلم الفرصة، فكبر وأمر المسلمين بالهجوم الشامل، وقال لهم: “شدوا عليهم، فقد ضعفوا!”.
فهجم المسلمون هجمة رجل واحد، ومعهم الملائكة تقاتل إلى جانبهم. كان المسلمون يرون أناسًا لم يروهم من قبل، يلبسون ثيابًا بيضاء، على خيول بلق، يقاتلون قتالًا شديدًا عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله. ومن المشاهد العجيبة التي رواها الصحابة، أن أحدهم كان يتبع رجلًا من المشركين ليضربه، فإذا برأس المشرك يطير قبل أن يصل إليه سيف المسلم، أو يسمع صوت ضربة سوط فوق رأس المشرك، فيسقط المشرك قتيلًا على الأرض وقد شُق وجهه وأنفه كأثر ضربة السوط، واخضرّ موضع الضربة كأنه رضّة شديدة. فلما أخبر أحد الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال له: “صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة”. لقد كانت الملائكة تضرب المشركين ضربات لا قبل لهم بها.
7.3. بطولات فردية: مصرع أبي جهل
في خضم المعركة الطاحنة، كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لا يزال يتذكر الشابين الصغيرين اللذين كانا بجانبه وسألاه عن أبي جهل. لمح عبد الرحمن بن عوف أبا جهل وهو يجول في أرض المعركة كالشيطان، فصاح بالشابين: “هذا صاحبكما الذي تسألان عنه!”. هذان الشابان هما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ ابن عفراء (وهو أخو عوف الذي استشهد في المبارزة أو شقيق له).
ما إن رأى الشابان أبا جهل، حتى انطلقا إليه كالصقرين، لا يلويان على شيء. كان أبو جهل في مثل “الحرجة” (الشجر الكثيف الملتف) من الرجال حوله يحمونه. ركض الأول (معاذ بن عمرو) بسرعة مذهلة، وبجرأة لا توصف، فضرب فرس أبي جهل ضربة أطاحت بأبي جهل عن ظهرها. وفي نفس اللحظة، كان الشاب الثاني (معوذ ابن عفراء) قد وصل، فركب على صدر أبي جهل أو على رأس فرسه وطعنه طعنة نافذة في حلقه. لقد اختارا الحلق لأنه مكان قاتل، ولأن أبا جهل كان مدججًا بالدروع، فكان الحلق هو النقطة الضعيفة المكشوفة. يا له من منظر! فتيان في الرابعة عشرة من العمر، أحدهما يعقر فرس قائد جيش الكفر، والآخر يجهز عليه بطعنة في حلقه!
لم يمت أبو جهل على الفور. وفي غمرة غضبه، ضرب بسيفه أحد الشابين (معاذ بن عمرو) على عاتقه، فقطع يده إلا قليلًا من الجلد، فبقيت يده معلقة. قاتل الشاب البطل ويده المقطوعة تتدلى وتعيقه في القتال، فلما آذته، وضعها تحت قدمه ثم تمطى عليها حتى انقطعت تمامًا، وألقاها، واستمر في القتال بيد واحدة! يا لها من بطولة وشجاعة نادرة!
8. النصر المبين وتداعياته
8.1. حصاد المعركة: شهداء وقتلى وأسرى
مع اشتداد قتال المسلمين والملائكة، بدأ جيش المشركين ينهار ويتراجع، ثم ولوا الأدبار هاربين لا يلوون على شيء. طاردهم المسلمون يقتلون ويأسرون. انتهت المعركة بنصر مؤزر وساحق للمسلمين، وهزيمة منكرة للمشركين.
استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلًا فقط: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. ومن بين الشهداء كان الحباب بن المنذر رضي الله عنه، صاحب المشورة العسكرية الناجحة بردم الآبار والسيطرة على الماء.
أما المشركون، فكانت خسائرهم فادحة. قُتل منهم سبعون رجلًا، معظمهم من سادة قريش وقادتها وصناديدها، وأُسر منهم سبعون آخرون. وكان من بين القتلى أبرز أئمة الكفر: أبو جهل (عمرو بن هشام)، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وغيرهم الكثير ممن كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في مكة.
8.2. النبي صلى الله عليه وسلم يكلم قتلى المشركين
بعد انتهاء المعركة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجثث قتلى المشركين فأُلقيت في قليب (بئر جافة) من آبار بدر، وهو القليب الخبيث. ثم وقف النبي صلى الله عليه وسلم على شفير القليب، وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم واحدًا واحدًا: “يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟”.
استغرب الصحابة من هذا الموقف، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟” فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: “والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا”. لقد كان هذا توبيخًا لهم على كفرهم وعنادهم، وإثباتًا لصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وكان المشهد الذي جعل أجساد الصحابة تقشعر، هو التحقق الدقيق لما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعركة عن مصارع هؤلاء القادة، فلم يخطئ أحد منهم المكان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
9. خاتمة: بدر وأثرها الخالد
من هنا، من بدر، بدأ تاريخ جديد للمسلمين. لم تعد الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة مجرد تجمع ضعيف للمؤمنين، بل أصبحت قوة يُحسب لها ألف حساب في جزيرة العرب. صار للمسلمين هيبة بين القبائل، وارتفعت معنوياتهم إلى عنان السماء. كانت بدر بحق يوم الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وأعز به الإسلام وأهله، وأذل به الشرك وأهله. وكانت المواجهة بين جبريل وجنوده من الملائكة وبين إبليس وحزبه من المشركين، آية من آيات الله الباهرة، ودليلًا على أن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء من عباده المؤمنين الصادقين.
إن قصة بدر، بتفاصيلها المذهلة وبطولاتها الخالدة، تظل منارة تهتدي بها الأجيال، وشاهدًا على أن الإيمان الصادق والتوكل على الله، مع الأخذ بالأسباب المتاحة، هو طريق النصر والعزة والتمكين.
10. روابط خارجية لمزيد من المعلومات:
- معركة بدر – ويكيبيديا
- جبريل عليه السلام – طريق الإسلام
- إبليس – قصة الإسلام
- [تفسير آيات سورة الأنفال المتعلقة ببدر – (مثل تفسير ابن كثير أو الطبري)](يمكن البحث عن تفسير الآيات 5-19 و 42-49 من سورة الأنفال في مواقع التفاسير المعتمدة)
- اقرأ أيضاً قصص
- السرايا الفارقة في السنة السادسة للهجرة: سيف العون ومعارك الإيمان
- أسيد بن حضير (رضي الله عنه): صاحب الصوت الملائكي وقصة الإيمان الخالد
- “الرجل الذي أرعب الفرس: قصة مجزأة بن ثور وبطولاته الخارقة في معركة شوشتر”
“لماذا تخلف كعب بن مالك عن تبوك؟ القصة الحقيقية للصدق الذي أبكى النبيﷺ وأنجاه”
نوم النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر: دروس، عبر، ومعجزة تكثير الماء