السرايا الفارقة في السنة السادسة للهجرة: سيف العون ومعارك الإيمان

جدول المحتويات:
- مقدمة: السنة السادسة للهجرة – عام التحولات والمواجهات
- سيف العون: معجزة نبوية في غزوة بدر ودلالاتها
- السرايا في السنة السادسة للهجرة: استراتيجية تأديب وردع
- سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر (بني أسد)
- سرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة وعوال (الطرف أو القَرطَاء)
- الدروس والعبر من هذه السرايا
- خاتمة
- قصص إيمانية ذات صلة
- مصادر خارجية للمزيد من القراءة
1. مقدمة: السنة السادسة للهجرة – عام التحولات والمواجهات
تعتبر السنة السادسة للهجرة النبوية الشريفة محطة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية وبناء الدولة في المدينة المنورة. شهد هذا العام أحداثًا جسامًا رسمت ملامح جديدة للعلاقة بين المسلمين ومحيطهم، أبرزها كان صلح الحديبية الذي، رغم شروطه التي بدت قاسية على المسلمين في حينها، فتح آفاقًا واسعة للدعوة وأتاح للمسلمين فرصة لالتقاط الأنفاس والتوجه نحو جبهات أخرى كانت تشكل خطرًا على استقرار الدولة الناشئة.
في خضم هذه التحولات الاستراتيجية، برزت أهمية السرايا العسكرية التي كان يرسلها النبي صلى الله عليه وسلم. لم تكن هذه السرايا مجرد استطلاعات روتينية، بل حملت أهدافًا متعددة تراوحت بين تأديب القبائل المعادية التي كانت تتحين الفرص للإغارة على المدينة أو تتحالف ضد المسلمين، وبين نشر هيبة الدولة الإسلامية وتأمين طرقها. ومن بين هذه السرايا، وما سبقها من غزوات، تبرز لنا قصص عجيبة تفيض بالإيمان وتتجلى فيها المعجزات النبوية والشجاعة الفذة للصحابة الكرام.
في هذا المقال، سنسلط الضوء على جانبين مهمين: أولهما معجزة نبوية خالدة تمثلت في تحويل عصا من حطب إلى سيف بتار في يد أحد الصحابة الأبطال، وثانيهما قصص بعض السرايا التي انطلقت في السنة السادسة للهجرة، بما حملته من أحداث متباينة بين النصر والمأساة، وبما قدمته من دروس وعبر لا تزال تلهمنا حتى يومنا هذا. سنتعرف على بطولات صحابة أجلاء مثل عكاشة بن محصن الأسدي ومحمد بن مسلمة الأنصاري، رضوان الله عليهم أجمعين، وكيف سطروا بدمائهم وتضحياتهم صفحات مشرقة في تاريخ الإسلام.
2. سيف العون: معجزة نبوية في غزوة بدر ودلالاتها
قبل أن نخوض في سرايا السنة السادسة، لا بد من التوقف عند معجزة باهرة سبقتها بسنوات، لكنها ظلت شاهدة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى قوة إيمان صحابته. هذه المعجزة هي قصة “سيف العون”، السيف الذي كان في الأصل عودًا من حطب.
تعود بنا الذاكرة إلى غزوة بدر الكبرى، تلك الملحمة الخالدة التي فرق الله بها بين الحق والباطل. في خضم المعركة الطاحنة، وبينما كان المسلمون يقاتلون ببسالة نادرة رغم قلة عددهم وعتادهم، انكسر سيف الصحابي الجليل عكاشة بن محصن الأسدي. في هذا الموقف الحرج، حيث كل سلاح له قيمته وكل مقاتل يُعوَّل عليه، لم يجد عكاشة رضي الله عنه بُدًا من اللجوء إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أتى عكاشة إلى رسول الله شاكيًا حاله، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جِذلًا من حطب (وفي روايات أخرى عرجونًا أي غصن النخلة)، وقال له: “قاتل بهذا يا عكاشة”. أخذ عكاشة العود من يد النبي صلى الله عليه وسلم، وما إن هزّه حتى تحول بإذن الله تعالى إلى سيف طويل، أبيض، شديد المتن، صقيل وقاطع. قاتل به عكاشة رضي الله عنه حتى فتح الله على المسلمين، ولم يزل هذا السيف معه يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، حتى استشهد وهو يقاتل به في حروب الردة. وقد عُرف هذا السيف فيما بعد باسم “العون”.
هذه المعجزة ليست مجرد حادثة خارقة، بل تحمل دلالات عميقة:
- تأييد الله لرسوله والمؤمنين: هي دليل مادي على أن الله لا يترك عباده المؤمنين، ويمدهم بأسباب النصر من حيث لا يحتسبون.
- بركة النبي صلى الله عليه وسلم: تظهر مكانة النبي عند ربه وقدرته على إحداث الخوارق بإذن الله.
- قوة اليقين: تُبرز قوة يقين الصحابة الذين كانوا يصدقون النبي في كل ما يقول ويفعل، ويأخذون أوامره بثقة مطلقة.
- الاستجابة الإلهية في أحلك الظروف: في وقت كان المسلمون بأمس الحاجة للسلاح، جاء المدد الإلهي بهذه الصورة المعجزة.
2.1. عكاشة بن محصن الأسدي: حامل سيف العون
عكاشة بن محصن الأسدي، رضي الله عنه، من السابقين إلى الإسلام، ومن المهاجرين الأوائل. كان فارسًا شجاعًا ومقاتلًا صنديدًا، شهد بدرًا وأحد والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. عُرف بقوته في القتال، حتى قيل إنه إذا ضرب بسيفه اهتزت الأرض من تحت قدمي خصمه. وهو الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وذلك عندما دعا النبي لهم، فقام عكاشة وقال: “ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله”، فقال: “أنت منهم”. ثم قام رجل آخر فقال مثل ذلك، فقال النبي: “سبقك بها عكاشة”. وظل هذا السيف “العون” رفيق دربه في الجهاد، شاهدًا على معجزة نبوية وبطولة صحابي جليل، حتى لقي ربه شهيدًا في قتال مسيلمة الكذاب. سيرته العطرة ومشاركته في سرية الغمر التي سنتحدث عنها لاحقًا، تزيد من إدراكنا لمكانة هذا الصحابي الجليل.
3. السرايا في السنة السادسة للهجرة: استراتيجية تأديب وردع
بعد صلح الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، دخلت الدولة الإسلامية مرحلة جديدة. فقد أمن المسلمون جانب قريش، أكبر قوة معادية لهم، وتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لمواجهة الأخطار الأخرى المحدقة بالمدينة من القبائل المحيطة التي لم تدخل في حلف مع المسلمين أو كانت تناصبهم العداء وتتربص بهم الدوائر.
في هذا السياق، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عدة سرايا عسكرية، كان الهدف الأساسي منها تأديب تلك القبائل التي كانت تتحالف ضد المسلمين أو تخطط للإغارة على أطراف المدينة. لم تكن هذه السرايا لغرض التوسع بقدر ما كانت لردع المعتدين، وتأمين الدولة الإسلامية، وإظهار قوة المسلمين وقدرتهم على حماية حدودهم ومصالحهم. وكانت هذه السرايا بمثابة رسائل واضحة بأن عهد الاستضعاف قد ولى، وأن للمسلمين دولة قوية قادرة على الدفاع عن نفسها.
4. سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر (بني أسد)
4.1. خلفية السرية وأهدافها
من بين السرايا الهامة في السنة السادسة للهجرة، كانت السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله عنه. كان الهدف من هذه السرية هو قبيلة بني أسد بن خزيمة. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني أسد قد جمعوا جموعًا يريدون الإغارة على مراعي المسلمين في أطراف المدينة. وكعادة النبي صلى الله عليه وسلم في استباق الأخطار وعدم انتظار العدو حتى يهاجم، قرر إرسال سرية لتأديبهم وتفريق جمعهم قبل أن يتمكنوا من تنفيذ مخططهم.
4.2. أحداث السرية ونتائجها
خرج عكاشة بن محصن رضي الله عنه على رأس أربعين فارسًا من الصحابة، متجهًا نحو “الغمر”، وهو ماء لبني أسد يبعد عن المدينة مسيرة ليالٍ. سار عكاشة وصحبه بسرعة وحذر، حتى باغتوا بني أسد عند مائهم. كان بنو أسد قد استشعروا قدوم المسلمين، ربما عن طريق عيونهم أو رعاة مواشيهم، فلما رأوا سرية المسلمين بقيادة عكاشة، دب الرعب في قلوبهم وتفرقوا هاربين تاركين وراءهم نَعَمَهم (الإبل والغنم).
لم يقع قتال يُذكر في هذه السرية، فقد تحقق الهدف بتفريق جمع بني أسد وردعهم عن الإغارة. استاق المسلمون مائتي بعير غنيمة، وعادوا بها إلى المدينة سالمين منتصرين. كانت هذه السرية ناجحة بكل المقاييس، فقد أظهرت سرعة تحرك المسلمين وقدرتهم على الوصول إلى أعدائهم في عقر دارهم، وأوصلت رسالة قوية لبني أسد وغيرهم من القبائل بأن محاولة الاعتداء على المسلمين لن تمر دون عقاب.
5. سرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة وعوال (الطرف أو القَرطَاء)
لم تكن كل السرايا بنفس القدر من النجاح الذي حالف سرية عكاشة. ففي نفس السنة السادسة للهجرة، وفي شهر ربيع الأول أو الآخر منها، شهدت إحدى السرايا أحداثًا مأساوية، وهي السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة صحابي جليل آخر.
5.1. محمد بن مسلمة الأنصاري: فارس رسول الله
قائد هذه السرية هو محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي رضي الله عنه. كان من كبار الصحابة وفضلائهم، ومن السابقين إلى الإسلام. شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة تبوك، حيث استخلفه النبي على المدينة. عُرف بشجاعته وإقدامه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثق به ويوكل إليه المهام الصعبة، حتى أنه كان يُلقب أحيانًا بـ “فارس رسول الله”. من أبرز المهام التي كُلف بها واشتهر بها مشاركته الفاعلة في قتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يؤذي النبي والمسلمين.
5.2. الخروج إلى بني ثعلبة والمأساة
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة على رأس عشرة من الصحابة إلى بني ثعلبة وبني عوال، وهما بطنان من العرب كانا يسكنان بمنطقة “الطرف” أو “القَرطاء” (وهي منطقة قرب ذي القصة، بين الربذة والمدينة). كان هدف هذه السرية أيضًا تأديب هاتين القبيلتين اللتين كانتا تتحالفان ضد المسلمين وتشكلان خطرًا.
خرج محمد بن مسلمة وأصحابه العشرة، وساروا في طريقهم. كانوا يسيرون بالنهار ويكمنون بالليل. وعندما اقتربوا من ديار القوم، وفي إحدى الليالي، بينما كانوا نائمين وقد نصبوا خيامهم للاستراحة، باغتهم كمين من بني ثعلبة وعوال. كان عدد المهاجمين كبيرًا جدًا، يُقدر بمائة مقاتل، بينما كان المسلمون عشرة فقط ونيامًا غير مستعدين للقتال.
دارت معركة غير متكافئة، حيث أحاط المشركون بالمسلمين من كل جانب وأمطروهم بوابل من السهام. قاتل الصحابة ببسالة وثبات رغم قلة عددهم ومفاجأتهم بالهجوم، ولكن الكثرة غلبت الشجاعة. استشهد الصحابة التسعة جميعًا، وسقط محمد بن مسلمة جريحًا بإصابات بالغة، حتى ظن المشركون أنه قد مات مع أصحابه. بعد أن تأكدوا من مقتل جميع من في السرية (في ظنهم)، قاموا بفعلة شنيعة تعكس حقدهم ووحشيتهم، حيث جردوا الشهداء من ملابسهم وتركوهم عراة في العراء.
5.3. نجاة محمد بن مسلمة ورجوعه بالخبر الأليم
بقي محمد بن مسلمة ملقى على الأرض بين الشهداء، ينزف ويتألم، ولكنه كان لا يزال على قيد الحياة. مكث على هذه الحال حتى مر به رجل مسلم من تلك الأنحاء، فلما رآه وعرف أنه من أصحاب النبي، أسعفه بماء وطعام، وحمله معه حتى أوصله إلى المدينة المنورة.
وصل محمد بن مسلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما حدث للسرية، وكيف غدر بهم القوم وقتلوا أصحابه. حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا على استشهاد هؤلاء النفر من خيرة أصحابه، ولكن هذا الحادث الأليم لم يفت في عضد المسلمين، بل زادهم إصرارًا على مواجهة أعداء الدعوة.
6. الدروس والعبر من هذه السرايا
تحمل هذه الأحداث، بمعجزاتها وانتصاراتها ومآسيها، دروسًا وعبرًا عظيمة:
- قوة الإيمان والمعجزات: قصة سيف العون تذكرنا بأن الله على كل شيء قدير، وأن الإيمان الصادق والتوكل على الله يجلبان التأييد الإلهي بأشكال قد تفوق التصور.
- الشجاعة والتضحية: بطولات صحابة كـعكاشة بن محصن ومحمد بن مسلمة وأصحابهما الذين استشهدوا، تجسد أسمى معاني التضحية والفداء في سبيل الله وإعلاء كلمته.
- الحكمة الاستراتيجية النبوية: إرسال السرايا كان جزءًا من رؤية استراتيجية شاملة لتأمين الدولة الإسلامية وردع المعتدين.
- طبيعة الصراع بين الحق والباطل: لم تخلُ مسيرة الدعوة من صعوبات ومواجهات، فانتصار المسلمين في سرية الغمر قابله مأساة في سرية بني ثعلبة، مما يؤكد أن طريق الحق محفوف بالتحديات.
- أهمية الحذر واليقظة: حادثة سرية محمد بن مسلمة تبرز أهمية أخذ الحيطة والحذر حتى في المهام التي تبدو صغيرة.
- الثبات على المبدأ: رغم الخسائر، لم يتراجع المسلمون عن مبادئهم أو يتخلوا عن دعوتهم، بل زادهم ذلك قوة وإصرارًا.
7. خاتمة
إن أحداث السنة السادسة للهجرة، بما فيها من سرايا ومعارك ومعاهدات، تمثل منعطفًا هامًا في السيرة النبوية. قصص مثل تحويل العصا إلى سيف، وبطولات السرايا، تظل منارات تهدينا إلى فهم أعمق لطبيعة الدعوة الإسلامية الأولى، وتضحيات رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. إنها دعوة للتأمل في قوة الإيمان، وأهمية الشجاعة، وحتمية الابتلاء، وضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله. رحم الله شهداء الإسلام ورضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين.
8. قصص إيمانية ذات صلة
للمزيد من القصص الملهمة حول قوة الإيمان والكرامات في صدر الإسلام، يمكنكم الاطلاع على:
- قصة أم شريك الغطفانية وكرامة إيمانية ودلو من السماء.
- قصة رزق من السماء: قصة مزارع آمن بالقدر فكافأه الله.
9. مصادر خارجية للمزيد من القراءة
- البداية والنهاية – ابن كثير (الجزء المتعلق بأحداث السنة السادسة للهجرة وغزوة بدر).
- الرحيق المختوم – صفي الرحمن المباركفوري (الفصول المتعلقة بالسرايا والغزوات).
- السيرة النبوية – ابن هشام (تفاصيل غزوة بدر والسرايا).
- مواقع إسلامية موثوقة مثل: